لم يكن مسلسل التآمر على فلسطين وليد اليوم، بل إن التآمر عليها بدأ قبل زوال الخلافة بسنوات، فبدأت المؤتمرات السرّية والعلنية التي انتهت بعد ذلك بتسليم فلسطين ليهود، والمستعمرون آنذاك فرنسا وبريطانيا، وتم الاعتراف بفلسطين وطنا قوميا ليهود، حيث تم طرد الغالبية العظمى من أهلها منها فيما كشف عنه باتفاقية سايكس بيكو، ثم بعد الاتفاق بسنة، جاء وعد بلفور صريحا بإعطاء فلسطين التي كانت تحت الانتداب الإنجليزي ليهود، واعتراف الدول آنذاك بل وأخذ العهد والوعد من الكيانات القائمة آنذاك بغربها وشرقها بالمحافظة على الكيان الذي سيولد بعد وعد بلفور بثلاثة عقود، ومنذ ذلك التاريخ والمؤامرات والكيد والدسائس لإبقاء اليهود في فلسطين والمحافظة عليهم آمنين مطمئنين أصبح هدفا استراتيجيا لكل دول العالم، ولا يقل حرص الدول المحيطة بفلسطين عن سادتهم في الغرب على تثبيت الكيان في فلسطين، فبقاء الكيان اللقيط ودوامه ليس هدفا لدول الكفر أمريكا والغرب فقط، وإنما هو هدف أيضا لعملائهم من حكام البلاد من العرب والعجم، بل إننا لا نبالغ إذا قلنا إن إبقاء اليهود في فلسطين قوة محتلة هو استراتيجية دولية وليس المُخبِر كالمعاين!
فقد كشفت حرب غزة أن كيان يهود لا يستمر ساعة من نهار لولا حماية العملاء والوكلاء لهم قبل الأصلاء، فهذه الثلة من مجاهدي غزة قد أذاقت يهود سوء العذاب وهي لا تملك إلا إيمانها بربها وشيئا قليلا من السلاح، فكيف لو تحركت جيوش المسلمين لقتالهم؟!
إن ما يحصل في غزة اليوم من قتل وتشريد وهدم للبيوت فوق رؤوس ساكنيها ليدل دلالة واضحة على حجم النفاق السياسي الذي يعيشه العالم، ففي الوقت الذي تداعت فيه دول الغرب كافة ضد روسيا، وفرضت عليها حصارا سياسيا واقتصاديا بل وحتى حصارا إلكترونيا ورياضيا، لأنها بحسب زعمهم دولة معتدية! وتعهدت تلك الدول الأوكرانيين برعايتهم وفتحت لهم الحدود بل ولم تنقطع مساعداتها العسكرية، وهي في الوقت ذاته تمنع عن أهل غزة الغذاء والماء والدواء، ولو استطاعت لمنعت عنهم الهواء كذلك، فهي في غزة تكيل بمكاييل عدة، وما ذلك إلا لأمرين:
أولهما: أن القتل في المسلمين، والمسلمون لا حارس لهم ولا إمام يذود عن أرضهم وعرضهم ودينهم.
وثانيهما: أن الكيان المعتدي هو يهود والذي أجمعت أنظمة الغرب والشرق على بقائه شوكة في حلق الأمة الإسلامية ليحول دون عودة وحدتها.
إن الدول كلها عدوة للإسلام وأهل الإسلام، وإن ذلك مسطور في كتاب الله سبحانه منذ ما يزيد على أربعة عشر قرنا، قال تعالى: ﴿وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ﴾ وقال أيضا: ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾. فعداء الكفر للإسلام وأهله أمر عقدي لا مراء ولا جدال فيه، والغرب لن يسمح للمسلمين بالرجوع إلى شيء من دينهم، فكيف وهم يعيدون في غزة حكم الجهاد غضاً طريا بعد أن حرص الكفار على إبعاده من أذهان المسلمين، واستبدلوا بالجهاد مصطلح المقاومة والنضال وما إلى ذلك حتى يبعدوا عن المسلمين ما كان به رفعتهم وهو الجهاد في سبيل الله!
إن ما حصل ويحصل في غزة أعاد للأمة الإسلامية تاريخ اليرموك وعين جالوت، وإن بطولات هذه الثلة المؤمنة الثابتة الصابرة في غزة قد عرَّت هذه الأنظمة، وكشفت عورتها وفضحتها، ولو أن أهل غزة قد أقاموا عليهم عميلا لما فعلوا ما فعلوا ولما أبلوا هذا البلاء الحسن.
إن الحكم الشرعي الذي أحيته غزة وهو أن الجهاد باق إلى قيام الساعة حتى يقاتل آخر هذه الأمة الدجال مصداقا لحديث النبي ﷺ: «وَالْجِهَادُ مَاضٍ مُنْذُ بَعَثَنِي اللهُ إِلَى أَنْ يُقَاتِلَ آخِرُ أُمَّتِي الدَّجَّالَ، لَا يُبْطِلُهُ جَوْرُ جَائِرٍ وَلَا عَدْلُ عَادِلٍ»، وأن هذه الأمة قد بدأت العودة إلى دينها الذي ذروة سنامه الجهاد، ومع أن الحكم الشرعي يجب أن يحاط من جميع جوانبه حتى يتحقق به المطلوب الشرعي وهو كون الجهاد أصالة ليس مهمة منطقة أو محلة أو حارة، وإنما هو حكم شرعي عام في الأمة الإسلامية كلها فإذا قصّرت الأمة فيه كانت آثمة فكيف إذا قصّرت عن تحرير مسرى رسول الله ﷺ؟! لذلك كان الخطأ الشرعي المتعمد أن يكون البحث في إعداد أهل غزة هل يكفي أم لا يكفي، وبعدها يبدأ بالتفريع على أصل فاسد! ومع عدم قبول الأصل تزول الفروع، فليس صحيحا أن يكون البحث بإعداد أهل غزة وحدهم وربط الحكم بهم وكأن الجهاد فرض عليهم وحدهم، بل إن الجهاد يتعين على الأمة إذا احتل شبر واحد من أرض المسلمين. فالسؤال إن جاز طرحه هو هل قدرات الأمة الإسلامية تكفي أم لا تكفي لقتال يهود وتحرير فلسطين، وليس رفع الظلم عن غزة فقط؟ والجواب الذي أبصره كل العقلاء أن الأمة اليوم تملك من المقدرات المادية والنفسية والبدنية ما يحرر فلسطين والأندلس ويفتح روما، ولا ينقصها إلا مبايعة رجل يحكمها بالقرآن والسنة، ويطبق عليها الإسلام ليعيد لها عزتها وكرامتها، فيحرك الجيوش ويحطم أركان هذه الدول الكرتونية، فقضية غزة بل قضية فلسطين كلها ما كانت لتكون لولا زوال الدرع الحارس والحامي لهذه الأمة، ولولا غياب جُنّتهم كما قال ﷺ: «وَإِنَّمَا الْإِمَامُ جُنَّةٌ يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ وَيُتَّقَى بِهِ».
إن المؤامرات التي تحاك تحت الطاولة بل فوقها باسم المؤتمرات أو المفاوضات برعاية قطرية أو مصرية أو أمريكية أو غيرها لا يراد بها وبأهل فلسطين وغزة خيرا، بل إن المشاريع المطروحة اليوم لا تعدو في أفضل حالاتها إلا أن ترسِّخ الحل الأمريكي الأوروبي للقضية الفلسطينية والذي عماده إقامة دويلة على حدود الرابع من حزيران! دولة أشبه ببلدية شأنها المحافظة على يهود وحراسة حدودهم ومنع كل من تسول له نفسه قتالهم أو حتى التعرض لهم، وإن مشروع حل الدولتين بالرغم من كونه يجعل كيان يهود أكثر أمنا وأمانا بالمنظور الدولي ونظر العملاء، إلا أن الكيان ما زال يرفض إعطاء أي شكل من أشكال الدولة لأهل فلسطين، بل إنه يقتل ويدمر في غزة والضفة، ويفشل كل المحادثات والمؤتمرات ويقتل حتى الذين يقبلون بالحلول السياسية، وما حملة الاغتيالات المجنونة التي تطال الكل إلا لإفشال أي مشروع في حل الدولتين ولو كان في صالح يهود.
إن يهود قد ختمهم الله وطبعهم على صفات هي أشبه بسكة النقود لا ينفكون عنها؛ فهم قوم بهت كما وصفهم عمر رضي الله عنه، وقبل ذلك وصفهم رب عمر في كتابه الكريم بصفات كثيرة أبرزها أنهم جبناء ويحرصون على حياة أي حياة ولو كانت حياة الذل، وهم الآن يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين الصابرين الثابتين، وما تمردهم الآن وعربدتهم إلا لأنهم لا يجدون من يقف في وجههم، وإن الخلافة القادمة بإذن الله ستخرجهم من فلسطين، إن بقي منهم أحد، أذلة صاغرين فالصبر الصبر، ﴿إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً﴾.
بقلم: الأستاذ خالد الأشقر
رأيك في الموضوع