تتحدث وسائل الإعلام عن خطة للرئيس الأمريكي السابق ترامب لإنهاء الحرب في أوكرانيا، وذلك بعد أن تفاخر بوجود خطة لديه لإنهاء الحرب خلال 24 ساعة، وكان قد صرح مراراً بأن هذه الحرب لم تكن لتحدث لو أنه استمر في منصبه، ومما يشير إلى أن لخطة ترامب هذه أبعاداً انتخابية أيضاً قوله "إنه يتمتع بعلاقة جيدة مع كل من الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي والرئيس الروسي فلاديمير بوتين"، وأضاف أن الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن غير قادر على التعامل مع زعماء العالم. (الشرق الأوسط، 17/7/2023).
وتقول التسريبات من بطانة ترامب بأن عماد هذه الخطة "الأرض مقابل السلام"، أي أن تتنازل أوكرانيا لروسيا عن جزيرة القرم التي ضمتها موسكو 2014 ومنطقة الدونباس التي تحتل روسيا جزءاً كبيراً منها منذ اشتعال الحرب 2022. وإذا كان ترامب نفسه قد أعلن عن وجود خطة لديه ولم يعلن عن بنودها وأعلنت بطانته عن بعض محاورها، فإن التسريبات لا تبين عمق الأراضي التي يمكن للمرشح الجمهوري في حال فوزه بانتخابات الرئاسة الأمريكية (تشرين الثاني 2024) أن يضغط على أوكرانيا للتنازل عنها لروسيا وإنهاء الحرب.
وهذه الخطة تتناقض تماماً مع المسار الذي تنتهجه إدارة الرئيس بايدن والقاضي بحرمان روسيا من كافة مكتسباتها من الحرب في أوكرانيا، بل وجعل الحرب في أوكرانيا معولاً لهدم مكانة روسيا الدولية وأداةً لاستنزاف قدراتها العسكرية والاقتصادية.
وبهذا القدر الكبير من التناقض بين خطة ترامب هذه وبين سياسة أمريكا الحالية إزاء الحرب في أوكرانيا فإنه تجدر ملاحظة أمرين؛ الأول: أن رائحة الحملة الانتخابية تفوح من هذه الخطة، فصاحبها يعلن بأن الرئيس بايدن لا يستطيع التعامل مع زعماء العالم وأن هذه الحرب لم تكن لتحصل لو كان ترامب رئيساً، أي أنه يستخدم ذلك للتقليل من شأن الرئيس بايدن، منافسه في الانتخابات الرئاسية، وثانياً: على الرغم من أن الحزب الجمهوري (حزب ترامب) يحمل إرثاً كبيراً من العداء لروسيا وكان يسميها "إمبراطورية الشر"، وعلى الرغم من أن إدارة حملة ترامب الانتخابية رفضت الإدلاء بتصريحات عن تفاصيل هذه الخطة ووصفتها بالتكهنات، إلا أن شدة الأولوية التي يوليها مفكرو السياسة الخارجية المتحالفين مع ترامب للصين تضيف الكثير من الجدية على هذه الخطة.
وكون هذه الخطة ذات أبعاد انتخابية لا يقلل من شأنها، إذ إن الرئيس الحالي بايدن كان أثناء حملته الانتخابية عام 2020 يعلن عن سياسة مختلفة تماماً عن سياسة إدارة ترامب وقتها بخصوص المناخ وقيود استخراج النفط وتصديره في أمريكا، وقد باشر الرئيس بايدن بعد فوزه بتطبيق تلك السياسات غير آبهٍ بالمعارضة الهائلة التي يواجهها من قطاع النفط الذي دعم منافسه ترامب في تلك الانتخابات، فالمناكفات بين الحزبين في أمريكا صارت مسألة جدية تلقي بثقلها على مجمل السياسة الأمريكية وتربكها عند تبدل الحكم بين الحزبين، وإذا فاز في الانتخابات الرئاسية القادمة فإن ترامب يمكن أن يقلب السياسة الأمريكية برمتها في أوكرانيا.
ومن ناحية أخرى، فإن الكثير من الجمهوريين يرون بأن وقف صعود الصين يمثل أولوية للسياسة الأمريكية وكذلك وقف تحالف الصين مع روسيا، كما ويرى الكثير من هؤلاء أن اللين مع روسيا بوصفها قوةً آفلةً وأقل خطورة على أمريكا يمكنها أن تحقق الكثير لأمريكا على ساحة الصين، وهذا يضيف مزيداً من الجدية على خطة ترامب لإنهاء الحرب في أوكرانيا.
ومن ناحية ثالثة فإن الرئيس السابق ترامب كان لا ينفك يكيل الانتقادات لسياسة بلاده السابقة بخصوص الحروب في الشرق الأوسط متندراً على تريليونات الدولارت التي أنفقتها أمريكا على تلك الحروب، واليوم يسعى أنصار ترامب في الكونغرس الأمريكي للحد من المساعدات الأمريكية المقدمة لأوكرانيا، بل وطالب ترامب نفسه بأن تقدم كقروض وليس كمساعدات، أي أنه يغلّب النظرة الاقتصادية قصيرة المدى على المصالح الأمريكية البعيدة، بمعنى أن المساعدات المقدمة لأوكرانيا تؤلمه بغض النظر عن أهمية دفع روسيا وعظمتها للوراء.
وإذا كانت أوكرانيا لا تستطيع بمفردها ودون الدعم الأمريكي مواجهة الجيش الروسي وأن الضغط الأمريكي عليها يؤتي ثماره في حال فاز ترامب بالانتخابات وأراد أن يطبق خطته، أي يدفعها للتنازل لروسيا عن الأرض وإنهاء الحرب، وإذا كانت الدول الأوروبية عاجزة عن تعويض الدعم الأمريكي بسبب ضعف بنيتها الصناعية العسكرية وبسبب ضعفها دون إسناد أمريكي على مواجهة روسيا في أوروبا فإن فوز ترامب في الانتخابات الأمريكية سيمثل كارثة استراتيجية لأوروبا.
وفيما تقول التسريبات حول خطة ترامب بأن بعض المناطق في أوكرانيا ستكون سعيدة بالانضمام لروسيا، وهذا صحيح كون الغالبية في شرق أوكرانيا هم من الروس، بل وإن أوكرانيا وفق الحدود الجديدة المقترحة في خطة ترامب يمكن أن يعمها نوع من الاستقرار بعد تقليل العامل الروسي داخل أوكرانيا، إلا أن الدول الأوروبية تخشى أن يمثل هذا الحل فرصة لروسيا لإعادة تسليح نفسها، ثم المطالبة من جديد بمناطق نفوذها السابقة في بلدان الاتحاد السوفييتي، بل وفي بلدان أوروبا الشرقية خاصة في حالة ضعف روابط حلف الأطلسي، وهو أمر يخشاه الأوروبيون أيضاً في ظل تشكيك ترامب غير المنقطع بحلف الأطلسي وتركيز توجهاته نحو الصين.
وقد نقلت الحرة، بتاريخ 8/4/2024 عن رئيس الوزراء المجري بعد اجتماعه مع ترامب (إن الرئيس الأمريكي السابق "لن يعطي فلسا واحدا" لأوكرانيا إذا أعيد انتخابه رئيسا للولايات المتحدة). وهذا يرعب الدول الأوروبية، خاصة وأن ترامب أظهر في مناسبات عدة إعجابه بالرئيس الروسي بوتين، بل وقال ترامب (إنه قد "يشجع" روسيا على مهاجمة الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي التي لا تفي بالتزاماتها المالية في حال عودته إلى البيت الأبيض بعد انتخابات تشرين الثاني/نوفمبر. فرانس 24، 12/2/2024).
وأما روسيا التي أحست بعمق ورطتها في أوكرانيا على وقع الدعم الغربي العسكري الكثيف لأوكرانيا والعقوبات الاقتصادية الشديدة التي فرضت عليها، بل وتخوفها من حرب مع حلف الأطلسي، فإن الراجح أنها ترحب بالمفاوضات والحل وفق خطة يقترحها ترامب في حال أصبح رئيساً للولايات المتحدة.
وبكل هذه الظروف من الانقسام داخل أمريكا، إلى أولوية الصين في جهود أمريكا الدولية، إلى مغازلة روسيا ووقف تحالفها مع الصين، إلى إرباك الدول الأوروبية، فإنه يجب النظر بجدية تجاه خطة ترامب والتي لم يعلن عنها رسمياً بعد.
بقلم: الأستاذ عصام الشيخ غانم
رأيك في الموضوع