يكرر نتنياهو وأعضاء حكومته يومياً، وأعلى مستويات القيادة في كيان يهود، أن الحرب الجارية في غزة لن تتوقف قبل تفكيك حماس وإزالتها، وضمان عدم تكرار ما حصل في السابع من تشرين الأول 2023، وأنه لا عودة إلى ما كان عليه الوضع في غزة قبل ذلك. وقد دأب هؤلاء في الأسابيع الأولى للحرب على التأكيد على أنهم ماضون في تحقيق هذه الأهداف غير آبهين بأي اعتراض، ومتبجِّحين بقدرتهم على ذلك. وقد ركزوا على توجيه خطاباتهم بهذا الشأن إلى أمريكا التي دعمتهم فيه بكل ما يحتاجونه. ثم ما لبثوا أن أخذوا يلمسون أن الأمر أصعب مما تصوروا، وظهر لكل العالم أن حربهم هي غيظ وحقدٌ ووحشية، وكل ما يفعلونه هو قصف البيوت والمدارس والمستشفيات وقتل المدنيين، وليس لديهم أي خطط تحقق أهدافهم، سوى ارتكاب الفظائع المذكورة. ولمَّا تبيَّن أنهم لم يحرزوا أيَّ تقدم باتجاه إنجاز أهدافهم أخذوا يتحدثون عن الحاجة لمزيد من الوقت. وبعد مرور أكثر من 80 يوماً على هذه الحرب - وهي أطول من كل حروبهم السابقة على أي جبهة - فبدلاً من أن يعرضوا إنجازات ولو جزئية، ويُبيِّنوا تحقيق شيءٍ من أهدافهم، إذا بهم يتحدثون عن أن تكاليف هذه الحرب باهظة، وأنهم يحتاجون للمزيد من الوقت وبدون تحديد، ويكررون أكاذيبهم بأنهم يحققون تقدماً، وسيحققون كل أهدافهم، بالقضاء على حماس وتحرير الأسرى، وتحقيق الأمن لكيانهم.
إن المدة التي مضت على هذه الحرب تتجاوز ما يستطيع كيان يهود احتماله، وبخاصة أن هناك مواجهات عسكرية تفاجئهم باستمرار وتوقع فيهم خسائر كبيرة. وقد بدأت مفاعيل هذه الخسائر تظهر بوضوح وبشكل مؤثر، حيث دبَّ في هذا الكيان الإنهاك والهلع، وأخذ الرعب ينال من جيشه الذي رأى الموت، وأصابه النقص وبدأ هو يتفكك بدلاً من أن يفكِّك حماس. فتم سحب لواء جولاني الذي هو أفضل ألويته ونخبتُها، من ساحات الحرب. وأخذت دلائل الفشل تزداد وتتأكد بنظر السياسيين والمراقبين والمعنيين وسائر اليهود.
هذه الأوضاع كفيلة بأن يهرع قادة هذا الكيان إلى أمريكا لتُنجِدهم بمخرجٍ ما، كوقف الحرب مثلاً، إلا أنهم لم يفعلوا ذلك، بل ازدادت تأكيداتهم بأنهم لن يتراجعوا قبل تحقيق أهدافهم، وبأنه لا مفر لهم من الاستمرار في الحرب والقضاء على حماس، وبأنّ كلَّ من يتوقع أو يتصور وقف الحرب قبل تحقيق أهدافها واهِم، وعلى المعارضة أن تفهم هذا الأمر. وقد فهمتْ قيادة المعارضة في الكنيست هذا الأمر وأيدت استمرار الحرب. فلماذا هذا الإصرار على إزالة حماس، وما سبب اضطرارهم للاستمرار بالحرب؟
إن موضوع القضاء على حماس هو في الحقيقة هدف أمريكي أكثر مما هو هدف (إسرائيلي)؛ وذلك أن أمريكا والغرب كله فوجئوا بما آلت إليه عملية طوفان الأقصى، وبما يمكن أن ينتج عنها من تداعيات خطيرة على النفوذ الغربي في المنطقة وعلى النظام العالمي الغربي. وقد دلَّ الاستنفار الأمريكي والغربي وحضور حاملات الطائرات إلى المنطقة، والدعم الأمريكي السريع والشامل لحرب كيان يهود على غزة، على أن هذه الحرب هي حرب أمريكا قبل كيان يهود، وأنها هدف استراتيجي لها. ولذلك، على كيان يهود أن يقوم بهذا الأمر على وجه الإلزام، بوصفه قاعدة عسكرية لأمريكا، وشُرطِياً لها في المنطقة ويداً ضاربةً، وإلا فسيفشل في دوره الوظيفي ويفقد أسباب وجوده. ومما يزيد رجحانَ هذا الأمر التصريحاتُ الأمريكية التي تحرِّض كيان يهود على القضاء على حماس، والمواقفُ الأمريكية الرافضة لوقف إطلاق النار، والتي تسعى لاستصدار قرار إدانة لها واتهام بالإرهاب من مجلس الأمن رغم تصاعد الرأي العام الداخلي والعالمي ضدها بسبب دعمها للكيان، والتي تضطرها للتظاهر بالضغط على كيان يهود لتقليل قتل المدنيين.
وفيما يلي شيءٌ من ذلك:
نشر موقع الحرة في 20 كانون الأول 2023 تحت عنوان "واشنطن تعتقد أنّ على (إسرائيل) القضاء على حماس وتقليل خسائر المدنيين" أن وزير الخارجية الأمريكي بلينكن قال في مؤتمر صحفي في اليوم نفسه: "إنّ (إسرائيل) تتحمل مسؤولية التخلّص من حماس، وتقليل الخسائر بين المدنيين"، وقال: "إنّ على (إسرائيل) التزاماً بالقيام بالأمرين معاً، ولديها مصلحة استراتيجية في القيام بهما معاً". ويتبين من استعمال بلينكن تعبير "التزام"، ومن إصرار أمريكا على رفض وقف الحرب، ومن تصريحات قادة اليهود بأنه لا مفرَّ من استمرار الحرب رغم تكاليفها الباهظة، أنّ هناك تهديداً بقطع حبل المدد الأمريكي عن كيان يهود، وهو تهديد وجودي.
وقد جاءت تصريحات قادة كيان يهود التي تصر على القضاء على حماس ورفض وقف إطلاق النار في سياق هذا الإلزام الذي فرضه عليهم بلينكن. يتبيّن هذا الأمر من التدقيق في صياغاتهم التي جعلت البديل عن قضائهم على حماس زوالَ كيانهم. والتي نصَّت على أن وجود رأي داخل الكيان بوقف الحرب قبل القضاء على حماس أمرٌ خطير. من ذلك مثلاً أقوال بعض حكام الكيان: "وجودنا مرهون بالانتصار في هذه الحرب"، كأقوال وزير الدفاع غالانت المتكررة: "إنّ الجيش يدفع أثماناً باهظة في هذه الحرب. ووجود (إسرائيل) في المنطقة مرهون بتحقيق الانتصار فيها". (الجزيرة نت). وهذا واضح الدلالة على وجود تهديد وجودي لكيانهم.
وكذلك ما لا يفتأ نتنياهو يكرره، كقوله في مستهل الاجتماع الحكومي الأسبوعي في 25 كانون الأول 2023: "ندفع ثمنا باهظا جدا في الحرب لكن ليس أمامنا خِيار سوى مواصلة القتال. والحرب ستكون طويلة حتى تحقق أهدافها". (فيديو سكاي نيوز). وقال: "نحن مستمرون في الحرب حتى النهاية، سنستمر حتى القضاء على حماس، من يعتقد أننا سنتوقف فهو بعيد عن الواقع، لن يتوقف القتال حتى نحقق كل الأهداف". (سكاي نيوز). وكذلك قوله في جلسة متوترةٍ للكنيست في اليوم نفسه، وسط استهجان أهالي الأسرى وصيحاتهم: "ممنوعٌ أن نوقف الحرب حتى ننتصر الانتصار الحاسم... أقول من هذه المنصة: نحن لن نوقف ولن نتوقف حتى الانتصار. ليس لدينا دولة أخرى وبلد آخر". (فيديو الجزيرة). وقوله: "ليس لدينا دولة أخرى وبلد آخر" واضح الدلالة أيضاً على وجود خطر وجودي يتهددهم.
ومن ذلك أيضاً خطابٌ لرئيس كيان يهود إسحاق هيرتسوغ في تل أبيب في 24 كانون الأول 2023، كرَّر فيه أن هذه الحرب لا مفرّ منها، وقال فيه: "مهمٌ أن أقول لكم هذه الليلة إن هذه حربٌ لا مفرَّ منها. إنها حربٌ قاسية وثقيلة ومستمرة وأليمة، ولا يمكن حسمها بهذه السرعة. ولكن، في هذا اليوم العصيب ممنوعٌ علينا أن ننكسر... ممنوع أن نعود إلى ما قبل السادس من تشرين الأول 2023". (فيديو الجزيرة)
إن وقائع هذه الحرب وتكاليفها الباهظة على كيان يهود، وتصريحات قادة هذا الكيان، تدل على أنه معلقٌ اليومَ من عنقه، بالحبل الأمريكي نفسه الذي لطالما أمده بالحياة والقوة، ودفعَه لارتكاب الفظائع ووفّر له الحماية والأمن. وما تعابير قادة هذا الكيان عن صعوبة الحرب وحجم تكاليفها، إلا دليل على حجم المأزق الذي باغتهم، وهو خطر الزوال الذي داهمهم، ولا يجدون مخرجاً منه أو حيلةً تجاهه إلا دفعَ المزيد من التكاليف بإرسال جنودهم إلى الموتِ والنُفوقِ قرباناً لأمريكا، ولعله يكون في ذلك منجىً لهم، لا سمح الله.
وفي ختام هذا العرض، تجدر الإشارة إلى أن هذا المأزق يشكل أزمة كبيرةً لأمريكا أيضاً، فعجز هذا الكيان عن القيام بدوره، يُفقدها أحد أهم أذرعها وأركان هيمنتها في المنطقة والعالم، ويضطرها إلى البحث عن استراتيجية أو صياغة جديدة، وهندسة مختلفة لركائز قوتها، ونظام هيمنتها في المنطقة وما هو أبعد منها. والمتوقَّع منطقياً أن يكون هذا الأمر محل نظر لدى الدولة العميقة وصُنَّاع السياسات والقرارات في الولايات المتحدة، وهذا ليس موضوع هذه الكلمة. ﴿وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾.
بقلم: الدكتور محمود عبد الهادي
رأيك في الموضوع