بعد أن دعا الرئيس الفنزويلي مادورو إلى استفتاء شعبي لضم الإقليم الحدودي إسكويبو الذي يشكل 70% من أراضي دولة غيانا (غيانا البريطانية سابقا)، وبرغم التسارع في المساعي الدبلوماسية خاصة من الحكومة البرازيلية للعدول عن إجراء الاستفتاء، إلا أنه تم في موعده المقرر له في 03/12/2023، وبرغم مشاركة شعبية تجاوزت القليل عن 50% إلا أن النتيجة النهائية عكست امتزاج رغبة الفنزويليين الشعبية مع المساعي الرسمية للدولة في ضم الإقليم بنسبة تأييد وصلت الـ98%، وبناء على هذه النتيجة اتخذت الدولة الفنزويلية قراراً بتجنيس كل سكان الإقليم واعتبارهم فنزويليين واعتبار الإقليم ولاية من ولايات الدولة الفنزويلية رسميا باسم جديد إسكويبو-غيانا.
وقد اعتبرت دولة غيانا هذه الدعوة للاستفتاء وهذا التوجه من الجارة فنزويلا تهديداً مباشراً لدولتهم. ومع هذه الدعوة للاستفتاء والحراك الدبلوماسي للعدول عنه، ترافق احتشاد عسكري على حدود البلدين، وكذلك على حدود البلد المجاور، البرازيل، بحجة منع استخدام الحدود البرازيلية من القوات الفنزويلية في حال المباشرة في عملية ضم الإقليم المتنازع عليه. ورافق كل ذلك أيضاً ابتعاث الإدارة الأمريكية لقائد المنطقة الجنوبية في الجيش الأمريكي في زيارة رسمية لدولة غيانا والتنسيق لإطلاق ومباشرة مناورات عسكرية مشتركة بين الجيش الأمريكي وجيش دولة غيانا. فيما اعتبرت الدولة الفنزويلية هذه المناورات استفزازاً وتهديداً أمريكياً مباشراً للدولة الفنزويلية.
وفي استعراض تاريخي سريع عن هذا الإقليم المتنازع عليه فقد كان جزءاً من الأراضي التاريخية الفنزويلية إبان إعلان الاستقلال عن الاستعمار الإسباني عام 1811م، ثم بعد أن اشترت الدولة البريطانية من الدولة الهولندية المستعمرة لجزء من الأراضي الغيانية دون تحديد للحدود مع فنزويلا ما مكّن الإنجليز فيما بعد لضم هذا الإقليم لحدود مستعمرتهم في غيانا. وفي عام 1824م طالب الزعيم الفنزويلي التاريخي سيمون بوليفار بريطانيا بإعادة هذا الإقليم للدولة الفنزويلية. ولكن في لجنة تحقيق دولية أوروبية في عام 1899م تم إقرار كون إقليم الإسكويبو ليس جزءاً من الأراضي الفنزويلية. وبعد ما يقارب الخمسة عقود وجد محامٍ أمريكي وثائق تثبت أن القضاة الأوروبيين الذين حكموا لصالح بريطانيا في قضية الإقليم المتنازع عليه كانوا مرتشين، وبذلك أُبطل الحكم السابق في القضية، وفي عام 1966م عندما أقدمت بريطانيا على الخروج من الأراضي الغيانية حينها أقرت للدولة الفنزويلية بملكية إقليم الإسكويبو لفنزويلا.
ومن المعلوم أن الإقليم مليء بالثروات إلا أن طبيعة أراضيه الصعبة من غابات وأنهار جعلت العمل فيه غير مجدٍ سابقاً. ولكن مع تزايد اكتشاف مناجم الذهب مع الاكتشافات الجديدة لشركة إكسوموبيل الأمريكية لآبار نفطية هائلة تجعل من غيانا الدولة الثالثة في أمريكا اللاتينية بعد المكسيك والبرازيل في النفط متقدمة حتى على فنزويلا، كل ذلك أعاد للإقليم أهميته لجميع الأطراف.
وكما نرى في المشهد السياسي الداخلي في فنزويلا نجد أن من الأسباب التي دفعت الرئيس مادورو لفتح هذا الملف هو اقتراب الانتخابات الرئاسية ومحاولة تحقيق شعبية تؤهله لفوز حقيقي في انتخابات ستتم مراقبتها ميدانياً عبر لجان مراقبة دولية، لأن هذه المنطقة عليها إجماع شعبي فنزويلي على أنها فنزويلية.
وفيما يبدو أن أمريكا معنية بهذه الحرب، وهي تستدرج نظام مادورو إليها وتشجعه عبر إيران وروسيا بحسب التقارير الإعلامية، فهذه الحرب ستكون مبرراً لأمريكا في التدخل العسكري وبسط النفوذ داخل فنزويلا لتتخلص من النظام الحالي الذي قطع يد أمريكا وأبواقها في الداخل الفنزويلي منذ أيام شافيز. طبعا هذا بعد فشل كل المحاولات سواء الإجرامية (مخطط اغتيال مادورو)، أو الخشنة (محاولة عزل مادورو عبر زعيم المعارضة رئيس مجلس النواب خوان غايدو حفيد أحد جنرالات الولاء لأمريكا) أو حتى الناعمة (عبر إعادة إظهار مادورو سياسياً في المنطقة على يد لولا لاحتوائه لصالح أمريكا).
إن التدخل العسكري الأمريكي يعني بسط النفوذ الأمريكي رسمياً ومباشرة على المنطقة المتنازع عليها في غيانا، المنطقة المليئة بالثروات النفطية المكتشفة حديثاً. ولا ننسى أن التكوين العسكري للقوات الفنزويلية هو تكوين مليشيات لحماية النظام من السقوط، وليس تكوين جيش لحروب مع دول كبرى.
إضافة إلى ذلك فإن التدخل العسكري في غيانا وفنزويلا سيُبقي الوجود العسكري الأمريكي قريباً أيضاً من البرازيل التي حصلت بين رجالات المؤسسة العسكرية فيها قبيل الانتخابات الرئاسية الأخيرة؛ خلافاتُ ولاء بين تيار ترامب والإدارة الأمريكية الرسمية. واللجوء لسيناريو الحرب والتدخل العسكري من الأمريكان يعكس استعجال أمريكا في إعادة ترتيب أوراقها في أمريكا اللاتينية وعدم انتظار نتائج المساعي السياسية التي يقودها لولا لصالح أمريكا، وكذلك مؤشر على عدم الثقة بقدرة لولا أو الوسط المحيط به (اليساريين) على السير في المسارات التي تريدها أمريكا.
بقلم: الأستاذ ياسر أبو خليل – ساوباولو (البرازيل)
رأيك في الموضوع