بعد منتصف القرن الفائت، بدأت تسري في المسلمين صحوة على أن الإسلام ليس مجرد أحكام تتعلق بالإيمان والعبادات والأخلاق، وأنه عقيدة سياسية ينبثق عنها نظام لكافة شؤون الحياة. ثم أخذت هذه الصحوة تنتشر بين المسلمين وتزداد علاماتها ودلائلها، ما نبَّه الغربَ إلى هذا الانقلاب في الوعي الإسلامي، حيث كان المسلمون في تراجع مستمر عن فهم الإسلام بوصفه نظاماً شاملاً لشؤون الحكم والسياسة. فكان هذا الانقلاب نذيراً للغرب، بعودة الإسلام إلى ميدان الصراع بعد أن اطمأنوا إلى أنهم قضَوْا على كيانه السياسي إلى غير رجعة. فاستنفر الغرب وفي مقدمته أمريكا لضرب فكرة الخلافة والتوجه السياسي الإسلامي برمته. وأطلق على هذا التوجه اسم الإسلاميزم Islamism، ووجَّه مراكز الدراسات الغربية والعربية، لتقديم مقترحاتها لهذه المواجهة.
والذي أقض مضاجع القائمين على النظام العالمي في هذا التوجه الإسلامي هو أن مصدره نصوص شرعية من عند الله، وليس قوانين مطروحة بوصفها مجرد إنتاج بشري.
ولا يعني تعبير الإسلام السياسي أن هناك إسلاماً سياسياً وإسلاماً غير سياسي، فالإسلام واحد بكل تشريعاته، سواء في العبادات أو المعاملات أو العقوبات أو أحكام الخلافة أو غيرها. وإنما المراد بهذا التعبير الفقهُ السياسي الإسلامي، فيُقال مثلاً فقه العبادات وفقه المعاملات والفقه السياسي وما شاكل ذلك.
وقد دفع ظهور رأي عام في الأمة أواخر القرن الفائت لصالح التغيير السياسي الإسلامي، مفكري الغرب وأكاديمييه، ومراكز الفكر والدراسات فيه، لدراسة هذا الأمر وتقديم مقترحاتهم بشأنه. وصدرت إثر ذلك دراسات تقول إن الإسلام السياسي مجرد ذرائع انتهازية. واستشهدت لذلك بإيران وتركيا، وبحركة الإخوان المسلمين، واستقصت مواقفهم وتغيُّراتها تبعاً لأهداف الوصول إلى الحكم. وركّزت على أن هذه التجارب والحركات لم تقدم أي برنامج لمعالجة المشاكل الاقتصادية أو الاجتماعية، وحكمت تبعاً لذلك على الإسلام السياسي بأنه فاشل.
وقد كان من أبرز هذه الدراسات كتاب "فشل الإسلام السياسي" الذي أصدره الفرنسي أوليفر روا عام 1992، وأكد فيه أن الإسلام السياسي فشل وسيخرج من الميدان قبل نهاية القرن. وكتاب "قدوم مجتمع ما بعد الإسلاميين" الذي أصدره الأكاديمي الأمريكي من أصل إيراني آصف بيات عام 1996، وتوقع فيه سقوط حكم ملالي إيران. وكتاب "ما بعد الإسلاميزم.. الأوجه المتغيرة للإسلام السياسي" وهو لعشرة باحثين مع آصف بيات الذي حرره عام 2009. ومراده بما بعد الإٍسلاميزم أن الإسلام السياسي فشل، والعلمانية هي البديل.
ورغم ذلك، جاءت الثورات العربية أواخر العام 2010 لتصدمهم بأن الإسلام السياسي هو خيار الأمة الإسلامية، رغم مزاعمهم ومحاولاتهم، وهذا يهدد الغرب وأنظمته وعملاءه. فأشعلوا جبهة الحرب على الإسلام السياسي وأجّجوها، وبخاصة بعد انقلاب تموز 2013 على حكم الإخوان في مصر، واهتزاز حكم حركة النهضة في تونس، رغم علمانيتها وتبجحها بأنها حركة سياسية وليست إسلامية. ونشطت الحملات الإعلامية في البلاد الإسلامية بضخ الأكاذيب بأن الإسلام السياسي قد فشل، مستندةً إلى ما آلت إليه الثورات العربية في مصر وتونس وغيرهما. وصدرت في ذلك عشرات الكتب ككتاب آصف بيات "ما بعد الإسلاميزم" الذي صدر عام 2013 مع أنه كان جاهزاً منذ العام 2009. وكتاب "إعادة التفكير في الإسلام السياسي" عام 2017، لباحثَيْن في مراكز دراسات أمريكية. وكتاب "الجهاد وآخرته.. ما بعد الأسلمة" عام 2018، ودراسة إيطالية عنوانها "الإسلام السياسي في البلاد العربية.. التاريخ والتطور" عام 2013 لتسعة باحثين في جامعة روما. ودراسة ماليزية عنوانها "الإسلام السياسي في الإسلاميزم وما بعد الإسلاميزم" عام 2018. وعُقد في العاصمة الأردنية مؤتمرٌ بعنوان "آفاق الإسلام السياسي في إقليم مضطرب، الإسلاميون وتحديات ما بعد الربيع العربي" عام 2017، ومؤتمر ثانٍ في العام 2018 بعنوان "ما بعد الإسلام السياسي: الشروط، السياقات والآفاق". وهذه نماذج قليلة لأعمال الحرب المحمومة على الإسلام السياسي، ناهيك عن برامج الفضائيات، ومئات المقالات العربية الموظفة لنشر خرافة فشل الإسلام السياسي.
ومما يلاحظ على كل هذه الإصدارات خلوُّها من أي إثبات لفشل الإسلام السياسي. ومعظمها يستند إلى مزاعم روا وبيات، ويصفونهما بالعلماء المرموقين في شؤون الحركات الاجتماعية والإسلام السياسي بهدف التأثير النفسي. يترجمون لهما، ويلخصون ويقتبسون ويعلقون ويكررون كالببغاوات، بهدف الترويض عبر الضخ الإعلامي.
لقد عمّمت هذه الدراسات النماذجَ التي استعرضتها على كل الحركات الإسلامية، فزعمت فشل الإسلام السياسي، واستدلَّت على ذلك بالممارسات المنحرفة عند جهات اختارتها وتعامت عن غيرها، وعند منظرين للعمل الإسلامي يسوِّغون انحرافاتهم بمزاعم إسلام وسطي أو معتدل، ويقولون بالديمقراطية والحريات العامة. وتجاهلت دلالات النصوص الشرعية في هذا المجال، وتغافلت عن النتاج الكبير الذي قدمه حزب التحرير فيه.
لذلك كانت كل هذه الدراسات والإصدارات متهافتة المزاعم، لأنها تقوم على التضليل وطمس الحقائق والتعمية عنها. فهي تختار تجارب محددة، عناوينها إسلامية وحقيقتها غير ذلك، فتتخذها دليلاً على فشل الإسلام في الحكم. وتعمد إلى حركات إسلامية الظاهر والشعارات، ولكنها علمانية المضامين، كحزب العدالة والتنمية في تركيا، وحركة الإخوان المسلمين وبناتها، كجبهة العمل الإسلامي في الأردن، وحركة النهضة في تونس وحزب العدالة والتنمية المغربي، فتتخذهم دليلاً على فشل الإسلام السياسي، مع أن طروحاتهم وممارساتهم السياسية تتناقض مع الإسلام. ثم تعدُّ فشل هؤلاء في تقديم أي برنامج أو مشروع سياسي إسلامي فشلاً للإسلام السياسي، وتبني على ذلك أن الإسلام خالٍ من أفكار سياسية مناسبة لهذا العصر. وهذا سقوطٌ منهجي وأخلاقي مُزرٍ، لأنه تغافل عما لا يجهله ذو نظر من شمول شريعة الإسلام، ولما فيه من تجاهل لحزب التحرير، وضربِ صفحٍ على إصداراته في أنظمة الحكم والإدارة والاقتصاد والاجتماع، ولدستور إسلامي باهرٍ للدولة الإسلامية. لذلك، كان هذا التغافل مع تعميم الاتهام للإسلام وسائر حركاته السياسية دجلاً مفضوحاً وطمساً للحقائق، ودليلاً على تهافت هذه الدراسات وانحطاط القائمين بها، وعلى أن مقولة فشل الإسلام السياسي فرية مكشوفة وساقطة كأصحابها.
وإنّ الوقائع الجارية لتثبت أن العلمانية هي الفاشلة، فقد أهلكت الحرث والنسل بفسادها وجرائمها، وهي تجهد للبقاء على قيد الحياة بالتضليل وطمس الحقائق، وبقتل الشعوب وسحقها. أما الإسلام فقد نجح عملياً نجاحاً منقطع النظير طوال تاريخه. وإذا لم يكن في الحكم اليوم، فهو في ميدان العمل السياسي، يناضل ويكافح ليصل إلى الحكم، وليقضي على العلمانية ودهاقنتها. فهو الحق، والأصيل الناجح والبديل القادم، وهي الزعم الباطل والآفل.
بقلم: الدكتور محمود عبد الهادي
رأيك في الموضوع