كما هو متوقع من نظام تركيا أردوغان، الذي أوكلت إليه أمريكا الملف السوري لوأد الثورة وتثبيت نظام عميلها أسد، فقد كشر هذا النظام المتآمر عن أنيابه وتابع ما بدأه منذ أشهر من مجاهرة صفيقة بمسارعته لمصالحة نظام الطاغية أسد لإنقاذه، والعمل لفرض هذه الجريمة على أهل الشام. فمنذ أن دعا وزير الخارجية التركي جاويش أوغلو، في آب الماضي، ما أسماها المعارضة السورية للتصالح مع نظام الإجرام، وتصريحات النظام التركي وأفعاله متسارعة بشكل شبه يومي باتجاه واحد، وهو توطيد علاقته مع سفاح الشام، وتسخير أدواته في المحرر من قادة مرتبطين وحكومات وظيفية لتحقيق هذه الغاية، ودفع حاضنة الثورة للقبول بها طوعاً أو كرهاً، وذلك بأوامر مباشرة من أمريكا التي تزعم نفاقاً معارضتها للتطبيع مع الديكتاتور كما وصفته، وهي التي تصل ليلها بنهارها لحمايته من السقوط وتمكينه من وأد الثورة.
فقد صرح أوغلو أن بلاده مستعدة لنقل السيطرة بمناطق وجودها في سوريا إلى سلطة ما أسماها الحكومة السورية، وأن تركيا جاهزة للعمل المشترك مع نظام أسد لمكافحة (الإرهاب) وإنجاز العملية السياسية. في الوقت نفسه الذي تهدد تركيا بعملية برية ضد قوات سوريا الديمقراطية لدفعها للارتماء بحضن أسد وتسليم المناطق إليه.
فيما قال أردوغان إنه قد يجتمع مع أسد من أجل السلام في المنطقة، وذلك بعد أيام من اجتماع ثلاثي عُقد في موسكو بين وزراء الدفاع التركي والسوري والروسي، بحضور أجهزة استخباراتهم، علماً أن اللقاءات الاستخباراتية التركية السورية لم تنقطع يوماً منذ انطلاقة الثورة.
وقد سبق لأردوغان قوله إن "الأمور يمكن أن تعود إلى نصابها في العلاقات مع النظام السوري، فليست هناك خصومة دائمة في السياسة"، ما يؤكد جدية تركيا وتنفيذها الحرفي للإملاءات الأمريكية بالعمل لتعويم نظام الإجرام والتطبيع المخزي معه، علماً أن أردوغان يستغل ذلك لتثبيت حكمه وإنجاح انتخاباته وسد ذرائع المعارضة التركية التي تحاول إحراجه وتزاود عليه، مع سعيه لتأمين أمنه وحدوده عبر مناداته بتعديل اتفاقية أضنة لتصل مسافة 30 كم بدلاً من 5 كم.
فيما قالت المتحدثة الإقليمية باسم الخارجية الأمريكية إن "خطوات التطبيع لن تؤثر على العقوبات الأمريكية ضد نظام أسد، وأن هذه العقوبات ستبقى ضده طالما بقي الديكتاتور رئيساً".
وبعد أن رأى النظام التركي ردة فعل حاضنة الثورة الغاضبة والرافضة للمصالحات، خرج ساسته ليتلاعبوا بالألفاظ والمصطلحات، فيقولوا إنهم لن يتخلوا عن المعارضة السورية، وأن "العلاقات بين سوريا وتركيا لن تضر بمجموعات المعارضة"، وأن سعي تركيا هو لتطبيق الحل السياسي المبني على أساس القرار الأممي 2254. وكأن هذا الحل ليس هو المصالحة الكبرى بعينها وإعادة البلاد والعباد لمقصلة الجلاد!
فيما قال أوغلو: "لن نطبع مع النظام السوري أو نعقد اجتماعاً معه رغماً عن المعارضة السورية"! أوغلو الذي حاول تقزيم ردة فعل أهل الشام وغضبهم العارم ضد الاستدارة التركية ومغازلتها لنظام أسد بقوله إن المعترضين على تقارب تركيا مع الأسد هم "جماعات قليلة جداً تتحرك وفقاً لمصالحها الخاصة"، معتبراً أن المعارضة السورية لم تبدِ أيّ رد فعل حيال ذلك. مؤكداً أنه سيعقد لقاءً منتصف كانون الثاني مع نظيريه الروسي والسوري، قبل أن يتم الإعلان عن تأجيله بعد رؤيتهم لحالة الغضب العارم والرفض الشعبي في عموم المحرر لتهافت النظام التركي على طعن الثورة والتطبيع مع نظام الإجرام، وبعد الرسالة الأمريكية الواضحة التي تلقفها نظام أردوغان بأن ظروف التطبيع لم تنضج بعد، حيث جدد المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية، نيد برايس، رفض بلاده أي خطوة من شأنها أن تعيد العلاقات بين أي دولة ونظام الأسد، قائلاً: "لقد أوضحنا أننا لن نطبع ولا نؤيد أية دولة تقوم بالتطبيع مع نظام الأسد". لكنه في الوقت نفسه أكد استمرار العمل لتطبيق الوجه الآخر للمصالحة عبر القرار 2254. تصريح برايس الأخير يأتي بالتزامن مع تقارب تركي مع نظام أسد، وعمل دبلوماسي روسي مكثف وتصريحات متبادلة بين النظام وتركيا. أما ياسين أقطاي، مستشار أردوغان السابق، فخرج علينا بفرية أن حل مشكلة اللاجئين هو "استعادة حلب"، كإبرة مخدر جديدة لم تعد تنطلي على أحد.
فيما نقل عن مسؤول تركي كبير عبر رويترز أن أنقرة اطّلعت على ردود فعل فصائل المعارضة على الاجتماع لكن تركيا تحدّد سياستها الخاصة. ونقل عن آخر: "أكدنا في اجتماع موسكو أننا لم نعد نرحب بهجرة السوريين إلى تركيا".
قد يتراءى للبعض أن تحرك تركيا إنما هو انعطافة واستدارة وتحول، لكنه في حقيقته وجوهره هو الموقف الأصلي لها لدورانها في فلك أمريكا. وما حصل باختصار هو نقل ما كان يحاك بخبث تحت الطاولة إلى تنفيذ عملي فوقها.
وعلى عكس ردود أفعال صادقي الأمة التي هزت جوقة المتآمرين، كانت ردود أفعال من يزعمون زوراً تمثيل الثورة من هيئات ومجالس وقادة المنظومة الفصائلية الذين لا يعصون للداعمين أمراً، فكانت التفافية وترقيعية، في محاولة خبيثة لاحتواء غضبة الأمة، ليكملوا درب خيانتهم عندما تخبو أنفاس الثائرين حسب ظنهم، فراحوا يثمنون دور تركيا في الدعم المزعوم للثورة وأن لتركيا ظروفها ومصالحها، ولم ينسوا أن يروجوا بخبث للوجه الآخر للمصالحة ألا وهو التسويق للحل السياسي الذي تهندسه أمريكا عبر بوابة القرار الأممي 2254.
وراح بعض القادة يرعد ويزبد ويتوعد نظام الإجرام في دمشق، بزعم رفضهم للمصالحة رغم تطبيقهم لها عملياً على الأرض، فهم أنفسهم من يجمدون الجبهات ويلاحقون من يسعى لفتحها أو يدعو لذلك، وهم أنفسهم من يكممون أفواه من يدعو لإسقاط النظام وإسقاط القادة الذين يحمون جبهاته، وهم أنفسهم من أدخل القوات التركية وحمى أرتالها وأرتال المحتل الروسي، وهم أنفسهم من جعلوا فتح معابر الخزي والعار والتطبيع مع الجزار قضيتهم المصيرية، وهم أنفسهم من يمعنون في التضييق الممنهج على الناس ليخضعوهم لما يملى عليهم من حلول استسلامية تحت مسميات سياسية.
ولا يُستغرب دفع النظام التركي لأدواته نحو التوحد على باطله لإخضاع الحاضنة لمؤامراته بعد ما أبدته من ثبات وعزيمة وإصرار.
مع تأكيد أهل الشام أنهم ثوارٌ لزلزلة عرش الطاغية أسد، لا معارضة مزعومة مسلوبة القرار تسعى لتثبيته وتقاسم فتات سلطة معه، معارضة مصنّعة لا تعدو كونها شاهد زور على بيع تضحيات الثائرين. وشتان بين من اتخذ الهوى والمصلحة وشهوة السلطة والمال ديناً له وبين من اتخذ الله وحده رباً يعبده بسعي حثيث لإقامة حكمه وتطبيق شرعه عبر كيان ودولة.
لقد امتحن الله أهل الشام بكل شيء؛ بدمائهم وأموالهم وأعراضهم وبيوتهم وأراضيهم، فخاضوا كل الامتحانات والصعوبات بنجاح، وباتوا مؤهلين لاستلام الحكم على أنقاض الطاغية إن هم أحسنوا التدبير، وخاصة مع توفر عنصر الإرادة والاستعداد للتضحية، واعتبار المعركة أنها معركة إيمان وعقيدة، وتبني شعار "الشهادة أو النصر"، وهذا ما تخشاه الدول، ولذلك تدفع باتجاه المصالحة، خاصة وأن الحاضنة عند النظام باتت مستعدة لدعمك بعد أن وصلتْ حد الموت، إضافةً إلى أن بعض مناطق سيطرة النظام تكاد تكون متفلتة من سيطرته، كدرعا وحوران في الجنوب، وتلبيسة في حمص وغيرها.
ختاماً، ولتحصين حراك الأمة من الحرف والاحتواء والامتطاء، لا بد من تبيان أن القضية لا تقتصر فقط على رفض فكرة المصالحة، فهي مرحلة قد تجاوزناها، بل لا بد من أن يكون تحرك الثائرين منظماً وواعياً وخالصاً لوجه الله، وإعلان التبرؤ الكامل من ضفدع المصالحات والوصاية التركي كقيادة سياسية أرهقت ثورتنا، وإسقاط أدواته في المحرر من هيئات سياسية وقادة مرتبطين وحكومات وظيفية. وما طردُ رئيس الائتلاف من مظاهرة إعزاز إلا أول الغيث، واستمرار الأمة في حراكها حتى تستعيد سلطانها وقرارها من مغتصبيه، وإعادة الثورة لتنظيم صفوفها شعبياً وعسكرياً وسياسياً، فكل مقومات الانتصار حاضرة والنظام مهلهل متصدع الأركان والبنيان يحكي انتفاخاً صولة الأسد، فأنصاف الثورات قاتلة والقضية باتت مسألة حياة أو موت، فالبحر من أمامنا والعدو من خلفنا، وقد أحرقنا كل مراكب العودة، مع إعلان رفض الحل السياسي الذي تهندسه أمريكا على أساس القرار الأممي 2254، وضرورة رص صفوف الثائرين خلف قيادة سياسية واعية ومخلصة ترسم لهم خارطة طريق تفصيلية لإسقاط النظام وتتويج التضحيات بحكم الإسلام. هذا هو الخلاص، ولمثل هذا فليعمل العاملون.
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية سوريا
رأيك في الموضوع