لا شك أن الإعلام جزء لا يتجزأ من حياة الناس، فلا يتصور أن يعيشوا في هذه الحياة الدنيا دون أن يعرفوا أخبار قومهم أو الأقوام الأخرى، وذلك ليتابعوا أحوال أصدقائهم فيساندوهم، وأخبار أعدائهم فيتقوا شرورهم. وللإعلام دور مهم جدا في صناعة الرأي العام وتوجيهه، وذلك لأهميته في تعزيز مكانة الحكام من جهة، وتحقيق أهدافهم واستمرارية وجودهم من جهة أخرى. وقد قص القرآن الكريم علينا طرفا من علاقة الإعلام بالحكام في قوله تعالى: ﴿وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُم مُّجْتَمِعُونَ * لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ﴾. وهو نموذج للإعلام الفاسد المتحيز سلبا لطرف من أطراف التحدي وهو الطرف الفرعوني. والإعلام يشبه القضاء، إذ ينبغي للقاضي قبل الفصل في الخصومة أن يستمع لحجج الطرفين، ويتتبع الحقائق دون تحيز. والإعلام هو كتابة للتاريخ، فما كتبه إعلام الأمس أصبح اليوم تاريخا، وما يكتبه الإعلام اليوم سيصبح تاريخا غدا. والذي يعنينا هنا هو التعرف على الإعلام الفاسد وأثره في توجيه الناس نحو السلبية وحرفهم عن الإيجابية.
وواضح أن الإعلام الفرعوني كان معنيا بتوجيه بوصلة الرأي العام نحو النتيجة التي يريدها من هذه المبارزة، وأنه كان واثقا من فوز السحرة على موسى عليه السلام، في قوله للناس بأن السحرة هم الغالبون من خلال الإيحاء بذلك عبر الدعوة التي وجهت. وقد كانت الصياغة مدروسة بعناية، وهكذا كل خبر ينقله الإعلام لا بد أن يكون كذلك.
وفي المقابل فإن الإعلام الصادق يقتضي نقل الحقائق مجردة، والتحلي بالمهنية الإعلامية خدمة لمصلحة المسلمين، وقد بين الله سبحانه وتعالى ذلك في قوله سبحانه: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِى الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً﴾. ومن الأحكام والآداب التي أخذها العلماء من هذه الآية الكريمة وجوب عدم إذاعة الأخبار - خصوصا في حالات الحرب - إلا بعد التأكد من صحتها ومن عدم إضرارها بمصلحة المسلمين. وفي ذلك يقول الإمام ابن كثير: هذا إنكار على من يبادر إلى الأمور قبل تحققها فيخبر بها ويفشيها وينشرها، وقد لا يكون لها صحة. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله ﷺ أنه قال: «كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ». وفي الصحيحين عن المغيرة بن شعبة أن رسول الله ﷺ نهى عن قيل وقال، أي: الذي يكثر من الحديث عما يقول الناس من غير تثبت ولا تدبر ولا تبين. وفي الصحيح: «مَنْ حَدَّثَ بِحَدِيثٍ وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبِينَ». وفي سنن أبي داود أن رسول الله ﷺ قال: «بِئْسَ مَطِيَّةُ الرَّجُلِ زَعَمُوا».
والخلاصة، أن إذاعة الأخبار بدون تثبت، خصوصا في أوقات الحروب، تؤدي إلى أعظم المفاسد والشرور، لأنها إن كانت تتعلق بالأمن فإنها قد تحدث لونا من التراخي وعدم أخذ الحذر، وإن كانت تتعلق بالخوف فإنها قد تحدث بلبلة واضطرابا في الصفوف. والمجتمع الذي يكثر فيه العقلاء الفطناء هو الذي تقل فيه إذاعة الأخبار إلا من مصادرها الأصيلة، وهو الذي يرجع أفراده في معرفة الحقائق إلى العلماء المتخصصين.
وهناك مثال آخر متعلق بالخبر الذي انتهى إلى رسول الله ﷺ وإلى المسلمين بخصوص نقض بني قريظة للحلف الذي عقدوه مع النبي ﷺ والمسلمين، فبعث رسول الله ﷺ سعد بن معاذ بن النعمان، وهو يومئذ سيد الأوس، وسعد بن عبادة بن دليم، أحد بني ساعدة بن كعب بن الخزرج وهو يومئذ سيد الخزرج ومعهما عبد الله بن رواحة، أخو بني الحارث بن الخزرج، وخوات بن جبير، أخو بني عمرو بن عوف. فقال: «انْطَلِقُوا حَتَّى تَنْظُرُوا أَحَقّ مَا بَلَغَنَا عَنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ أَمْ لَا؟ فَإِنْ كَانَ حَقًّا فَالْحِنُوا لِي لَحْنًا أَعْرِفُهُ، وَلَا تَفُتُّوا فِي أَعْضَاءِ النَّاسِ، وَإِنْ كَانُوا عَلَى الْوَفَاءِ فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فَاجْهَرُوا بِهِ لِلنَّاسِ» قال: فخرجوا حتى أتوهم، فوجدوهم على أخبث ما بلغهم عنهم، (فيما) نالوا من رسول الله ﷺ، وقالوا: من رسول الله؟ لا عهد بيننا وبين محمد ولا عقد. فشاتمهم سعد بن معاذ وشاتموه، وكان رجلا فيه حدة، فقال له سعد بن عبادة: دع عنك مشاتمتهم، فما بيننا وبينهم أربى من المشاتمة. ثم أقبل سعد وسعد ومن معهما، إلى رسول الله ﷺ، فسلموا عليه، ثم قالوا: عضل والقارة؛ أي كغدر عضل والقارة بأصحاب الرجيع، خبيب وأصحابه؛ فقال رسول الله ﷺ: «اللَّهُ أَكبَرُ، أَبْشِرُوا يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ».
هذا وإن الإعلام الفاسد اليوم يلعب دورا كبيرا في تثبيط المسلمين عن القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المفضي إلى التغيير الإيجابي وتطبيق شرع الله على عباده، وجند لذلك جيشا كبيرا من الإعلاميين وعلماء القصور الذين ما انفكوا يروجون لباطل الحكام، ويعادون العاملين الجادين لإقامة خلافة المسلمين الثانية الراشدة على منهاج النبوة، ويحرضون عليهم، حتى ينفض الناس من حولهم من أجل بقاء الحال الفاسد على ما هو عليه. ومن جانب آخر فإن الإعلام الفاسد يعمل ليلا ونهارا على إفساد أذواق الناس، واستهلاك أوقاتهم في المسلسلات الكثيرة عديمة الفائدة، بل إنها تحمل إليهم السم الزعاف والتخريب المتعمد. فلا عجب بعد ذلك أن ظهرت في المسلمين أجيال لا تعرف عن دينها وإسلامها وقيمها وتاريخها شيئا يذكر، وعمت الانهيارات الهائلة في الفكر والشعور معظم المسلمين على نحو لم يسبق له مثيل، وما ذلك إلا بفعل فساد الإعلام وفساد الحكام وفساد العلماء. نسأل الله العافية.
وإنه ليس ينقذ المسلمين من براثن هذا الإعلام المطبق على عقول المسلمين إلا أن ينقلبوا على حكامهم الأشرار، ويقيموا الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة على أنقاض ممالكهم الضارة، ليحكمهم من يسوسهم بالشرع، ويفقههم في دينهم؛ علماء ربانيون، ويتهيأ لهم إعلام نظيف صادق يعيد لأفكارهم ومشاعرهم توازنها الإسلامي من جديد، ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيباً﴾.
رأيك في الموضوع