بالرغم من تباين المواقف بشأن أوكرانيا بين الغرب؛ ألمانيا وفرنسا من جهة، وبين أمريكا من جهة أخرى، إلا أنه قد فرض عقوبات قاسية على روسيا أدت إلى تدهور سريع في سعر العملة الروسية، وأدى فصلها عن نظام سويفت للمبادلات المالية والتجارية إلى إفلاس كثير من بنوكها وشركاتها، هذا فضلاً عن تجميد أرصدتها التي يحتفظ بها الغرب وأمريكا، وهكذا عملت أمريكا على شيطنة بوتين وأظهرته ودولته بمظهر الخارج عن القانون الدولي والأعراف العالمية، وتريد منه أن يوقف حربه فوراً ضد أوكرانيا دون أي ضمانات مكتوبة أو غير مكتوبة، حتى إذا خرج بدأت تلاحقه فيما ظنه حقاً له باحتلاله أراضي القرم.
إن المعركة بين الغرب ومن ورائه أمريكا وبين روسيا هي معركة أقرب إلى عض الأصابع أو كسر العظم، فروسيا لا تريد لحلف شمال الأطلسي أن يصل إلى حدودها وأوكرانيا في خاصرتها، وزيلينسكي عميل أمريكا لا يخفي مطالباته بالانضمام إلى الناتو والاتحاد الأوروبي، فهي تدرك أنها إن فقدت أوكرانيا فإنها تفقد سيطرتها على البحر الأسود وبحر أزوف الذي يعتبر بالنسبة لها شريان الحياة، وقد خاضت لأجل هذا الحروب الطاحنة حتى تمكنت من بسط سيطرتها عليهما منذ زمن الخلافة العثمانية، بل وانتزعت القرم من المسلمين منذ أكثر من قرنين لهذه الغاية، وهي لا تريد أن تفرط بأوكرانيا مثلما فرطت في دول أوروبا الشرقية وانفرط عقدها حتى أصبحت بولندا التي عرفها العالم بوارسو رمز قوة الاتحاد السوفييتي جزءاً من أوروبا وأمنها ومؤسساتها وحلفها، فهي تدرك أن أوكرانيا هي آخر ما بقي لها، ولن تتركها للغرب لقمة سائغة، لكن الغرب بالمقابل ومن ورائه أمريكا فإن أوكرانيا بالنسبة له هي بوابته على دول أوروبا الشرقية، وهو يدرك أن روسيا إذا أخذت أوكرانيا إلى جانبها فإنه سيصبح على قواعد عسكرية وأنظمة صاروخية متقدمة على حدوده؛ لذلك تجده وقف بقضّه وقضيضه لجعل روسيا تخسر الحرب وتعود بغير ماء وجه، أما أمريكا التي كان رئيسها يضحك بملء شدقيه عندما تورطت روسيا في الأوحال الأوكرانية فإنها تدرك حمق الرئيس الروسي وحب العظمة عنده، وتدرك أن هاتين الصفتين اللتين تسيطران عليه هما ما جعلها تستخدم روسيا في سوريا علّها تظفر من أمريكا بالاعتراف لها بالقرم، مع أن روسيا لو لم تكن غبية سياسيا لتركت أمريكا تتورط في سوريا كما تورطت هي في أفغانستان.
إن روسيا في وضع حرج وقد كان يكفيها أن تبقي بعض جنودها وحشودها العسكرية على حدود أوكرانيا البرية في القرم وبيلاروسيا والمناطق الشرقية لأوكرانيا الموالية لها دون أن تتورط في هذه الحرب التي تستغلها أمريكا والغرب لإرهاقها عسكرياً واقتصادياً، قد كان يكفيها التهديد لمنع أوكرانيا من الانضمام لحلف الناتو والاتحاد الأوروبي، ولكنه غباء بوتين وكبره هو الذي ورطه في هذه الحرب وقد بدأ يطالب النظام في أوكرانيا من أول أيام الحرب لعقد محادثات تبقي له شيئاً من الكرامة حتى يخرج أو يعطيه الأوكرانيون وعميل أمريكا زيلينسكي أي ضمانات موقّعة حتى يوقف حربه ضدها، ولكن الغرب يريد منه أن يخرج بدون أي ضمانات، بل إنه من المتوقع إن خرج أن تبقي أمريكا عليه العقوبات الاقتصادية فتعامله كما تعامل إيران وكوريا الشمالية، لعلها تفصل بين روسيا وبين الصين.
إنَّ العمل على فصل العلاقة بين روسيا والصين هو هدف استراتيجي لأمريكا، تحدَّث عنه كيسنجر منذ السبعينات، وتدرك أمريكا أنَّ فك العلاقة بينهما هو السبيل للتغلب عليهما، وقد سعت لاحتواء الصين منذ أوائل عهد أوباما وأخفقت! ذكرت هذا هيلاري كلينتون في مذكراتها يوم كانت وزيراً للخارجية.
ونراها اليوم تطلب من الصين صراحةً أن تدين العمل العسكري الروسي في أوكرانيا، وما زالت الصين تراوغ، ما دعا وزير الخارجية الأمريكي بلينكن لأن يتهمها بأن مراوغاتها تلك تعارض المواثيق والأعراف الدولية وحقوق الإنسان.
ولم يكن مقبولا أمريكيا أن تمتنع الصين عن التصويت في مجلس الأمن لما عرضت أمريكا مشروع قانون يدين التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، وأيضاً لم يكن مقبولاً أن تقول الصين بوحدة الأراضي الأوكرانية وتسكت عن الإدانة.
إنَّ الغرب وبخاصة أمريكا، سبق له أن خدع روسيا يوم جعلها تقبل بسقوط جدار برلين وتسليم ألمانيا الشرقية لألمانيا الغربية، وخدعها عندما أبقى عميلها يانوكوفيتش سنة 2014 ثم حرَّك الشارع ضدَّه، وما زال يستخدمها في سوريا وليبيا حتى أصبح اسم روسيا وثيق الصلة بعصابات فاغنر وعصابات القتل الإجرامية وبوتين.
يبقى السيناريو الأسوأ بالنسبة للغرب وأمريكا، هو ماذا لو نجحت روسيا في وضع نظام بديل لنظام زيلينسكي عميل أمريكا أو نجحت في استمالته؟! خاصة وأنَّ زيلينسكي شعر بخيبة أمل لعدم وقوف الغرب إلى جانبه، فالمساعدات العسكرية حتى الآن لا تزال دون الآلة العسكرية الروسية المدمرة التي لا تقوى أوكرانيا بمفردها على الوقوف ضدها، وخطاباته تنطق بأنَّ أمريكا والغرب ورطت أوكرانيا مع قوة من أعتى قوى الأرض، ثم راح وتركها ولها في ذلك مثل قريب في جورجيا عندما أغرتها أمريكا بضم أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، إلا أنَّ موسكو لتبرير دخولها في جورجيا قامت واعترفت بأبخازيا وأوسيتيا منطقتين مستقلتين عن جورجيا على غرار ما فعلته جمهوريتا الشرق الأوكراني ولم تفعل أمريكا تجاه هذا التصرف الروسي شيئاً مع أنَّ حاكم جورجيا وقتها ساكشفيلي كان عميلاً أمريكيّاً بامتياز، استبدلت به أمريكا عميلا آخر لها هو شيفارنازده، بسبب أنَّه أراد إمساك عصا العمالة من المنتصف بين روسيا وأمريكا محاولاً إرضاء الطرفين.
على كل حال، لقد سبق لحزب التحرير أن قال إنَّ أمريكا لن تسمح بأن تهدأ الأمور في أوكرانيا على سياسة (لا غالب ولا مغلوب)، بل إنها ستعمل على أن تبقى الأوضاع متفجرة للضغط على روسيا وأوروبا، فتبقى أوروبا تحت جناحها وتضرب روسيا في خاصرتها، وإذا حصل واستطاعت فعل ذلك ونجحت به فإنها ستعمل جاهدةً بعد ذلك على فك العلاقة بين روسيا والصين لتتفرغ بعدها لتحجيم التنِّين الصيني والعملاق الآسيوي.
ختاما: إنَّ القرم التي قضمتها روسيا من أوكرانيا هي أرض إسلامية حكمت بالإسلام لأزيد من ثلاثة قرون! وقد فصلها الروس عن جسم الدولة بعد أن أعملوا في أهلها القتل والتشريد، وإن أهلها هم من التتار المسلمين، ولزيادة علم فإن (القرم) عند أهلها وبلغتهم تعني القلعة أو الحصن، وإن المسلمين كما بسطوا يدهم عليها وحكموها بالإسلام، فإنهم سيعيدونها قريبا بإذن الله.
إن أوكرانيا والعالم لن يقر له قرار أو يهدأ له بال إلا بأن يعود الموقف الدولي بيد هذه الأمة العزيزة، ولن نقول للدنيا حينها جئناكم بالذبح بل سنقول لهم إن الأمانة التي حملناها هي التي جعلتنا نفتح بلدكم، لننشر بينكم العدل والرحمة.
رأيك في الموضوع