1- ماذا حل بالمسلمين حتى أسقطت دولتُهم؟
إن الوعي السياسي هو أغلى ما تمتلكه الشعوب والأمم، إذ الغَلَبة في معترك الحياة الدولية هي دوماً لمن هو أكثر وعياً سياسياً. إن أول خطوة أقدم عليها الكفارُ الغربيون لكسر شوكة الأمة الإسلامية وشرذمتها وتقطيع أوصالها والقضاء على وحدتها هي زرع فكرة فصل الدين عن الدولة في بلاد المسلمين.
قبل مئة عام تمكن الغربُ بقيادة رأس الكفر بريطانيا من الإجهاز على الخلافة العثمانية. ولم يحصل ذلك في الحقيقة إلا عندما رجحت كفة دول الغرب في الوعي السياسي، إذ الدول هي الكيانات السياسية التي ترعى شؤون شعوبها. فحين حدثت الفاجعة وألغى عميل الإنجليز ومجرم العصر مصطفى كمال نظامَ الخلافة عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى على مرأى ومسمع من شعوب الأمة الإسلامية كلها، لم يكن ذلك سوى مؤشر على تفوق الغرب في الوعي السياسي، وأن الأمة الإسلامية انتكست بعد رقي وعز ومنَعةٍ إلى أدنى دركات الانحطاط الفكري والهبوط السياسي بعد أن فعل الكفار الأوروبيون وغيرُهم فعلتهم فيها. فلم يكن ذلك إلا تتويجاً لجهود مضنية على صعيد الفكر والسياسة على مدى أكثر من قرنين بذلتْها قبل ذلك أجهزةُ دول الغرب لإيجاد أوساط فكرية وسياسية وثقافية مناوئةٍ للسلطة المركزية في الأستانة وفي غيرها، متعاونةً مع عملاء الداخل من العرب والترك وغيرهم بخيانةٍ وعمالة أو بسطحية وسذاجة وتفاهة! فكان ذلك مؤذناً بتضعضع الدولة العثمانية من الداخل، ثم تتالت عليها ضرباتُ الأعداء من الخارج حتى حدث الانهيار المدوي أخيراً. ولا أدل على ذلك الهبوط لحظة ارتكاب الجرم يوم الثالث من آذار من سنة 1924م من ابتهاج بل وترحيب فئاتٍ عديدة من الأمة المنهكة نفسِها بإلغاء نظام الخلافة، أملاً في التحرر والرقي واللحاق بالدول المتقدمة، في مفارقة عجيبة!! ولا يتسع المقام هنا لذكر فصول تلك الزلات والمآسي والمؤامرات والخيانات التي سبقت الزلزال، وما حل بالأمة بعد ذلك من ويلات ونكبات! ولكن لا شك أن سبب كل ذلك هو انعدام الوعي السياسي من منظور عقيدة وهوية الأمة الإسلامية. وبعد ذهاب الخلافة تمكن الأعداء من تقسيم الدولة الواحدة والأمة الواحدة إلى وطنياتٍ وكيانات سياسية هزيلة عديدة قائمةٍ على أساس الفكرة الوطنية أو القومية أو العشائرية ممزوجة كلها بالعلمانية، نصبوا على رأس كل قطر منها حاكماً عميلاً يأتمر بأوامر الغرب الكافر في كل الشؤون.
حتى إذا استاء الشعبُ في هذا القطر أو ذاك بعد عقدين أو ثلاثة أو أربعة وضاقت به الحالُ من حكم العملاء، وهو في سجن الدولة الوطنية الذي وضعه الاستعمارُ فيه، تحرك من تلقاء نفسه نتيجة الضيق، أو انتفض وثار في الغالب بفعل فاعلٍ من الأطراف الدولية من المتصارعين الغربيين على النفوذ في بلاد المسلمين، ولكن دائماً على غير هدى! فكانت الثورات والجهود الضائعة والنكسات والكفاح الرخيص خلال القرن الماضي (!!!)، وليس ذلك إلا بسبب ثقافة الغرب المسمومة، وهو ما يعني انعدام الوعي الصحيح على الطريق المؤدي بشكل قطعي إلى الخلاص. إلا أن التشخيص الدقيق والصحيح لواقع الحكم في البلاد المستعمَرة عامةً ومنها بلاد المسلمين منذ أن وطئتـْها أقدامُ المستعمِر الرأسمالي البغيض إلى يومنا هذا، وذلك في أغلب أقطارها إن لم يكن في كل قطر منها، هو أن هنالك ثلاث طبقات متضافرة من الأعداء تمارس عمليةَ التحكم في الشعوب الإسلامية يجب أن يعيها أبناء الأمة جيداً:
الحاكم الحقيقي هو الغرب، الذي يمسك بزمام الأمور.
أمامَه حاكم فعلي متمثل في قيادة الجيش أو قادة المؤسسة العسكرية على صلة وثيقة مع أعداء الأمة في الغرب ولكن لا يظهر في الغالب أنه هو مَن يمارس السلطة. فهو الحاكم الفعلي الذي يضع الغربُ بيده كلَّ القوة المادية من أفراد الجيش من أبناء الشعب المسلم ومن سلاح ومن مال وشبكات اتصال وإعلام واستعلام وغيرها. مهمتهُ خدمةُ العدو وتمكينه من رقاب المسلمين ومن ثروات البلاد والحيلولة بالسياسة وأحياناً بالقوة دون تغيير "المعادلة الاستعمارية" في القطر الذي يتحكَّم فيه!! وتبرز دائماً قبضة قادةِ المؤسسة العسكرية نواطير الغرب للواجهة أي في الساحة السياسية حين يحتدم الصراع عندما تشتد الأزماتُ وينشد الناس التغييرَ الشامل وتبلغ درجة استياء الشعب أوجَها طلباً للتحرر من العدو، أي عندما يقرر الشعب بل يُقدم على قطع الصلة مع الحاكم الحقيقي الذي هو المستعمِر كما أسلفنا.
أمامَ الحاكم الفعلي في حالة الاستقرار النسبي، واجهةٌ مدنيةٌ ذات سلطة واهية في غالب الأحيان، وتتلقى الأوامر والتوجيهاتِ من العسكر أو مباشرة من المستعمِر، أو هي بالأصل منهم أي من زمرة السلطة الفعلية ولكن بلباس مدني. والثابتُ أنها تُفرض دائماً على الشعب بالقوة من طرف الحاكم الفعلي بتدبير من الغرب، أو عبر انتخابات مسرحية في أكثر الحالات. وتتمثل هذه الواجهة في الغالب في حاكم عميل سافل مفوه يتقن الدجل، ملكاً كان أو شيخاً أو رئيساً أو أميراً، وهي في محطات الصراع أول ما يُستبدل عند حدوث حراك شعبي ينادي بتغيير منظومة الحكم الفاسدة.
لذا فإن كل التحاليل للوضع في بلاد المسلمين يجب أن تكون مبنيةً على هذا التشخيص وهذا التوصيف، خصوصاً في الكيانات ذات الأنظمة والدساتير الجمهورية! وهذا مهم جداً!! إذ الجيوش في كل بلاد المسلمين هي من الشعوب، وأفرادُها يحملون عقيدةَ الأمة. ولكن عندما يتحرك الجيش للسيطرة على الوضع وإخماد الثورة لا يتحرك باعتبار بقية الشعب عدواً كما يظن ويتوهم كثير من السذج، ولكن يتحرك استجابةً لقادة المؤسسة العسكرية بوصفها الحاكم الفعلي على الأرض الذي يقف وراءه الحاكمُ الحقيقي (الغرب) وبتوجيه منه وفق التوصيف المذكور أعلاه. يُستخلص من ذلك بسهولة أن التحدي الأكبر في وجه التغيير هو جعل الجيوش - التي هي من الأمة - لا تستجيب للحاكم الفعلي إلا في اتجاه نُصرة الشعوب المقهورة في مواجهة الحاكم الحقيقي. وذلك من أصعب ما يمكن!! لذلك كان لا مناص من خوض الصراع الفكري والكفاح السياسي في أوساط المسلمين لا فرق بين مدنيين وعسكريين لإنهاض الأمة واستنصار جيوشها لإقامة دولة الإسلام وإعادة الأمور إلى السكة.
ولكن في الغالب عندما تثور الشعوب في بلاد المسلمين ويحتدم الصراع، وبتوظيف الحاكم الفعلي لفريق من "المعتدلين" من المسلمين الذين لا يعتبرون الغربَ عدواً متربصاً ولا طرفاً متآمراً، وبوضعهم في الواجهة، أو بتوظيف انتهازيين "وطنيين" مزيفين منحطين وسفلة، أو بإبراز علمانيين متزلفين جدد يحملون فكرَ الغرب وثقافتَه، سرعان ما يُمتص الغضب الثوري ويُخمد الحراك الشعبي، ثم يتم احتواؤه بفعل التفاف الحاكم الحقيقي الممسك بزمام الأمور (الغرب) على الثورة بما يمتلك من قوة ونفوذٍ في جميع الأوساط. والسبب دائماً والثابتُ هو عدم وجود الوعي السياسي الصحيح المبني على الإسلام عند نخب الأمة! فيتم بذلك سريعاً "إفراغ الوعاء".
ثم يُعاد إملاؤه بعملاء آخرين من جديد!! وبعد عقود وعندما تبلغ درجة الحرارة (الغضب والاستيلاء) حداً لا يطاق نتيجةَ ظلم الحاكم وسطوة الغرب وسوء الرعاية والنهب، تُلقى الشرارة في وسط الشعب الغاضب من طرف جهة سياسية مستفيدةٍ سواء من الداخل أو من الخارج ويبدأ الاحتجاج والتظاهر، ثم تتكرر العملية مرة أخرى وفق ما هيأ وخطط له الغرب تحسباً لكل ثورة، خصوصاً في بلاد المسلمين!!! فكيف يكون الخلاص إذن؟
[يتبع...]
رأيك في الموضوع