يقف مسجد ومقام النبي موسى عليه السلام على تلة بين القدس والبحر الميت، فتراه شامخا ينتظر جموع المسلمين لتحرير الأرض المباركة ومسرى النبي ﷺ، كما فعلت أيام الصليبيين والمغول، وقد نقش على حجر تأسيسه أن السلطان المظفر بيبرس "مبيد الإفرنج والتتار ومقتلع القلاع من أيدى الكفار"، قد أسسه ليكون مسجدا يقام فيه ذكر الله.
يقف المسجد كإخوته من المساجد والمقامات التي أقيمت مع مجيء الفتح الإسلامي مع بداية القرن السابع الميلادي وتحرير الأرض المباركة من الاحتلال البيزنطي، فقد اتخذ الخلفاء من التلال والجبال المشرفة على المدن نقاطاً للحراسة والإنذار المبكر، فأقاموا عليها المساجد والمقامات لتقوم بتلك الوظيفة العظيمة حراسة الأرض المباركة، وجعلها القائد المظفر صلاح الدين مراكز تجمع للمسلمين للدفاع عن الأرض المباركة تستقبل جموع المسلمين من العالم لتكون درعا للأرض المباركة على الدوام.
فقد ابتدع القائد صلاح الدين الأيوبي لأول مرة في تاريخ فلسطين ظاهرة "المواسم" كما يوثق المؤرخ سليم المبيض "موزعاً إياها توزيعاً جغرافياً، جاعلاً لكل مدينة رئيسة موسماً خاصاً بها يجمع أبناءها وأبناء من حولها من القرى، بحيث تُغطي أرض فلسطين بكاملها في زمان محدد يقع بين أواخر شهر آذار/مارس وحتى نهاية شهر نيسان/أبريل من كل عام، وهي فترة قدوم الفرنجة المسيحيين من خارج فلسطين لزيارة الأماكن المقدسة لكي يجدوا البلاد في حالة استنفار كامل قد احتشدوا جميعاً بكل قواهم يتبارون ويتبارز فرسانهم في هذا الموسم، حتى إذا ما فكر الفرنجة في استغلال زيارتهم للعدوان، هب المحتفلون بالمواسم ضدهم، وتلك كانت الغاية العسكرية في ذهن صلاح الدين من هذه المواسم".
فكان موسم النبي موسى لمدينة القدس وما حولها بعد تحريرها عام 1187م، وموسم النبي صالح خاص بمدينة الرملة وقراها، وموسم آخر قاعدته مدينة يافا، في حين جعل لبدو النقب وشرق غزة "موسم المنطار" وخص مدينة غزة الفوقية بموسم خاص بها أطلق عليه "موسم دير الروم" يحتفل به أبناء غزة بالقرب من بابها الجنوبي "باب دير الروم" الذي يطلق عليه عامة الشعب "موسم الداروم".
وفي ليلة من ليالي الأرض المباركة الحزينة حيث يمضى مسجد ومقام النبي موسى وقته في انتظار جموع المسلمين لتلبية النداء ويتشوق وأهل الأرض المباركة لصخب الجيوش المزمجرة نصرة للمسجد الأقصى والأرض المباركة، مر شباب قادهم الشوق للصلاة في المسجد ليتفاجأوا بحفنة ترقص على أنغام موسيقى صاخبة تملأ المكان الطاهر، فتحركت مشاعرهم الجياشة وحضرت مكانة المسجد والمقام ودوره في نفوسهم فهبوا لإخراج تلك الفرقة وتطهير المقام والمسجد من دنس ما يقترفون فيه.
جريمة هزت أهل الأرض المباركة التي تسكنهم أمجاد الفاتحين وبطولات المحررين ودماء الشهداء من الصحابة والمسلمين الذين هبوا لنصرة الأرض المباركة من كل البلاد الإسلامية، لتتكشف مسؤولية السلطة الفلسطينية المباشرة عن هذه الجريمة عبر توقيعها اتفاقية مع صندوق الإنماء الدولي والاتحاد الأوروبي لتحويل المسجد والمقام وأروقته لمكان سياحي وغرف فندقية ومرافق سياحية وتأجير المقام لشركة سياحية غربية، فهب أهل الأرض المباركة مستنكرين هذه الجريمة البشعة التي تضيفها السلطة لسجلها الإجرامي في تنفيذ خطط المستعمرين الغربيين لإفساد أهل الأرض المباركة عبر نشر الثقافة الغربية ومقررات اتفاقية سيداو الخبيثة في المناهج والنشاطات والجامعات ووضع التشريعات التي تسلخ أهل فلسطين عن ثقافتهم ومعتقداهم ليسهل تطويعهم وقبولهم بكيان يهود الغاصب، مخططات قابلها أهل فلسطين بالرفض والاستنكار.
رفض واستنكار ارتفعت وتيرته في ظل منع السلطة للمساجد وإقامة الجمع بذرائع واهية تناقض تصرفاتها ونشاطاتها التي أعطت من خلالها التراخيص للاحتفالات والفعاليات، لتكون الحفلة التي رخصت لها السلطة في مقام ومسجد النبي موسى نموذجا صارخا لتعاطيها مع شعائر المسلمين ومقدساتهم وثقافتهم، فالسلطة جعلت من مقدسات الأمة لهوا ولعبا وتعلنها حربا صريحة على ثقافة الأمة ومقدساتها عبر تنفيذها لخطط المستعمرين وتوقيعها للاتفاقيات التي تحول المساجد لساحات رقص ومجون، والمناهج أداة لعلمنة الأجيال، والقوانين كوسيلة لشرعنة اتفاقية سيداو ومقرراتها الخبيثة في الأرض المباركة.
أرض مباركة تأبى الإفساد هب أهلها لنصرة مساجدهم ومقاماتهم ذات الرسالة الواضحة، فتقاطر أهل الأرض المباركة في حشود قل مثيلها لصلاة الجمعة في مسجد النبي موسى عليه السلام ليبرقوا رسالة رفض لسياسات السلطة ويعلنوا استنكارهم للحادثة الإجرامية في أروقة المقام ويعيدوا للمقام طهره ودوره في يوم علا فيه التكبير والتهليل في المسجد والمقام الذي استعاد نضارته وجزءا من رونقه.
رونق لن يستعيده مسجد ومقام النبي موسى عليه السلام وغيره من المقامات والمساجد وعلى رأسها المسجد الأقصى كاملا إلا بتحريرها من دنس كيان يهود الغاصب، فأهل الأرض المباركة لبوا نداء المسجد والمقام في رسالة واضحة للأمة الإسلامية أنها قادرة على التغيير، وأن الطهر يعود للأرض المباركة ومقدساتها ومساجدها بالتحرك الفاعل والفوري، فالأمة قادرة على إزالة الطواغيت وإقامة الخلافة على منهاج النبوة لتحرر الأرض المباركة وتقتلع كيان يهود وكل المفسدين فيها مرة وإلى الأبد.
فالمسجد الأقصى ينتظر المحررين، ومسجد النبي موسى والمقامات في الأرض المباركة تستنهض المسلمين وتستنصرهم، وهي ما زالت ترقب ذلك اليوم الذي تعج فيه وتزدحم بجيوش المسلمين القادمين لتحريرها ليعود للأرض طهرها وللمساجد والمقامات دورها.
* عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في الأرض المباركة فلسطين
رأيك في الموضوع