مع مرور عشر سنوات مُضنية على اندلاع الثورات العربية يجد المتابع الحريص لأحداثها نفسه وكأنّه مُلزماً على القيام بتقييم موضوعي للنتائج الضبابية لهذه الثورات، ولإمكانية الحصول على نتائج إيجابية مرجوة يمكن البناء عليها، وتطويرها بكافة السبل لإحداث التغيير المطلوب منها.
إنّه وإن كانت النتائج الظاهرية لتجربة العقد الأخير من هذه الثورات تبدو هزيلة بفعل الثورات المضادة، إلا أنّها قد زرعت بذرة العمل للتغيير الجاد، فالجماهير العربية وبفعل تلك الثورات لا شك أنّها اكتسبت خبرات جديدة، وأصبحت تنتظر الفرصة المواتية للانقضاض على الحكام، مُتجاوزة تلك الأخطاء القاتلة التي وقعت بها، وأهمها تغييب المشروع الإسلامي، والركون إلى بعض الأنظمة التي كان يُظنُّ بها خيراً.
ولو استعرضنا ما آلت إليه الأوضاع السياسية في الدول العربية التي نشبت فيها الثورات لوجدناها بلا شك مُخيّبة للآمال؛ ففي تونس مُبتدأ هذه الثورات ومُلهمتها، نجد أوضاعها السياسية قاتمة جداً، فهذا رئيسها قيس سعيّد يتعامل مع السياسة وكأنّها مُجرد أداء أكاديمي يفتقر إلى الإجراءات السياسية الفاعلة، فيُلقي الخطابات الجوفاء، ويُركّز على الجوانب البروتوكولية، ويتجنب الخوض في العمل السياسي الحقيقي، تاركاً للحكومات التونسية الفاشلة العاجزة ذلك العمل الخطير، ونتائج تلك الممارسات البهلوانية تنحصر في لعبة تغيير الحكومات التي لا تملك سلطة اتخاذ القرارات السياسية الجريئة، فتتحول أعمالها السياسية إلى ما يشبه الأعمال الإدارية التصريفية، فيما يُسمح للبرلمان التونسي بممارسة لعبة مملة تُظهر صراعاً للشعارات تنحصر في عموميات الميل نحو الدكتاتورية أو الديمقراطية، بينما يرزح الاقتصاد التونسي تحت وطأة الانكماش وانعدام الإنتاج مع بطالة تزيد عن 18%، فيما يستمر الرئيس بأداء الخطابات الكلامية بوصفه ظاهرة صوتية لا تعكس أي عمل سياسي حقيقي على الأرض، وأمّا إن قام بعمل محسوس فتجده يقوم بأسوأ الأعمال السياسية على الإطلاق، كزيارته لباريس في أسوأ توقيت، فيلتقط الصور مع زعيم حاقد على الإسلام ينفث سمومه جهاراً نهاراً ضد رسولنا الكريم ﷺ.
وفي اليمن تبدو الحرب فيها وكأنّها قدر لا نهاية له، والانقسامات بين الشمال والجنوب تُكرّس الانفصال الدائم، وأمّا الانقسامات بين الجنوبيين أنفسهم فهي شبه دائمة، تُغذيها دوائر الاستخبارات الأمريكية والبريطانية، وتُنفذها السعودية والإمارات، وفيما يتوافق الساسة في الدولتين مؤخراً على تشكيل حكومة محاصصة للجنوب بلا فاعلية لها، تستمر المعاناة الحقيقية بين اليمنيين، ويغرق 80% من السكان في حالة من المجاعة والفقر المدقع وشظف العيش.
وفي سوريا يُكمل التدخل التركي أهدافه بإخلاء نقاطه العسكرية نقطة بعد نقطة وتسليمها لنظام بشار المجرم، ويستمر مع هذا الإخلاء النكث بالوعود التي كانت تُطلقها تركيا مثل شعار: يجب إرجاع الأسد إلى ما بعد مورك، وغيرها من الوعود الكاذبة، بينما تُمكّن روسيا من السيطرة على الشريط الساحلي، وتُمكّن أمريكا من السيطرة على نفط شرق سوريا، فيما تستمر نكبة السوريين وتشريدهم في المخيمات والأمصار، وإنهاكهم وتصفية ثورتهم، وتسليمها للفصائل المشبوهة.
وفي السودان الذي قام حكامه العملاء بالتطبيع مع كيان يهود مُقابل رفع اسم السودان عن قائمة الدول الراعية (للإرهاب)، يتم تمكين حكامه من العسكر مثل البرهان وحميدتي من السيطرة على القرار السياسي وحرمان المدنيين المنافسين من التفرد بأي قرار دون الرجوع إلى العسكر، وذلك من خلال تشكيل ما يُسمّى بمجلس شركاء الفترة الانتقالية، وذلك لإبعاد تأثير الحراك الجماهيري، ولتحجيم دور عملاء بريطانيا في الحكومة، ثمّ تلقي أمريكا لعملائها بالفتات مثل منح السودان منحة بقيمة 20 مليون دولار لشراء القمح، بينما تستمر الأوضاع الاقتصادية للسكان بالتدهور، مع بطالة تزيد عن 13%، فيما يستمر إقحام السودان بمشاكل سياسية جديدة مع إثيوبيا التي احتلت مليشياتها أراضي سودانية حدودية، والتي قد تُهيئ للدخول في حرب جديدة ربما تطول.
وفي ليبيا فإنّ الصراع المحتدم بين القوى الاستعمارية الأمريكية والأوروبية يكاد يُكرّس تقسيم النفوذ في ليبيا بشكلٍ دائم إلى شرق برقة وغرب طرابلس يُمثّله حفتر والسرّاج، فيما يُضاف فيه إلى اللاعبين الأصليين وهما أمريكا وأوروبا لاعبون جدد وبالذات روسيا وتركيا، فتزداد تعقيدات الصراع، وتوضع الخطوط الحمراء الفاصلة، بينما يستمر رجال السياسة والإعلام المحليون في النقاش بلا طائل حول مواضيع سقيمة تدور حول الانحياز للعسكر أو للديمقراطية، ويُستبعد الإسلام من الساحة بحجة أنّ الإسلام هو الحرية.
وأما مصر فيستمر السيسي فيها مدعوماً من المخابرات الأمريكية بتشديد قبضته على أهل مصر، وكتم أنفاسهم، والانحياز السافر لكل أعدائهم، وذلك بافتعال معارك وهمية مع الإسلاميين، وفي الوقت نفسه يقوم بالعمل على بناء دولة قوية في مصر للعسكر، يتوهم أنّها ستحصّنه من غضب الجماهير وثورتهم في قابل الأيام، ولكنّها بالتأكيد لن تكون سوى بيت واهن كبيت العنكبوت.
إنّ هذه النتائج السياسية للثورات العربية في هذه البلدان التي اندلعت فيها الثورات تبدو في ظاهرها وكأنّها أعادت الشعوب إلى المربع الأول، وأعادتها في عملية التغيير إلى ما دون الصفر، لكن هذه الدول ما زالت تتلمس الرماد الذي بدأت حرارته يُستشعر بها من تحت الأقدام، فعاصفة التغيير الجديدة قادمة لا محالة، وفشل الأنظمة الظاهر في مُعالجة أوضاع الناس السياسية ما هو إلا الوقود الجاهز لتفجير ثورات جديدة، والتي ستكون هذه المرة على أساس مبدأ الإسلام القويم، والمتمثل بمشروعه العظيم ألا وهو الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة، وعد ربنا سبحانه وبشرى رسوله ﷺ.
رأيك في الموضوع