تضاربت الأنباء حول بدء إثيوبيا بملء سد النهضة دون اتفاق مع دول المصب، فبينما كشفت صحيفة بيلد الألمانية منذ أيام نقلا عن تقرير للاستخبارات الألمانية أنه تم الكشف عن وجود جاسوس مصري في محيط الناطق باسم المستشارة أنجيلا ميركل يعمل على جمع معلومات عن المعارضين الذين يعيشون في ألمانيا، بينما في المقابل لا توجد معلومات لدى النظام عن حقيقة بدء إثيوبيا بملء سد النهضة، فقد طلب المتحدث باسم الخارجية المصرية توضيحا رسميا عاجلا من الحكومة الإثيوبية بشأن مدى صحة بدء ملء خزان سد النهضة. ومن المعلوم أن مصر ستكون هي المتضرر الأكبر، حيث سيؤثر السد على منسوب نهر النيل الذي تعتمد عليه مصر بنسبة تتجاوز 95% لتأمين حاجاتها المائية. وتستند مصر إلى حقوق تاريخية بموجب اتفاقيتي 1929 و1959م اللتين تمنحانها 87% من مياه النيل وهو ما يقدر بـ55 مليار متر مكعب سنويا. وبموجب هاتين الاتفاقيتين أيضا تمتلك مصر حقّ الموافقة على مشاريع الري في دول المنبع.
وتتعلق النقاط الخلافية بقواعد تشغيل السد وتصريف المياه وكيفية التعامل مع سنوات الجفاف. ولم تذكر أديس أبابا حجم تدفق المياه الذي تريده، بينما تصر مصر على أن يتدفق إليها ما لا يقل عن أربعين مليار متر مكعب من مياه السد سنويا. لكن الخلاف يحتدم أساسا حول مدة ملء بحيرة السد، فبينما تريد إثيوبيا ملء البحيرة خلال فترة من أربع إلى سبع سنوات ترى مصر أن هذه الفترة قليلة وأنها ستحد من تدفق المياه إليها.
وكانت وثيقة المبادئ التي وقعتها الدول الثلاث (مصر والسودان وإثيوبيا) في 23 آذار/مارس 2015م، هي أس البلاء الذي تسبب فيه نظام السيسي، إذ اعترفت فيها مصر بحق إثيوبيا في بناء السد. واليوم يتباكى النظام على اللبن المسكوب! مما يؤكد أن الخطر على مصر ودخولها في مرحلة العطش والجفاف لم يكن سببه سد النهضة حقيقة، بل سببه هو ضعف أداء النظام المصري، إن لم نقل خيانته وتواطؤه وتفريطه في حقوق مصر المائية، فقد اكتفى بمجرد التفاوض وهو يعلم يقينا مماطلة إثيوبيا على مدار أكثر من سبع سنوات حتى يصبح السد أمرا واقعا.
في المقابل تم استنفار الناس وتخويفهم مما يحدث في ليبيا بعد اندحار قوات حفتر المدعوم من مصر بأوامر أمريكية، فإذا بأبواق النظام الإعلامية تغض الطرف عن الفشل الذريع الذي مني به النظام في إدارة ملف النهضة الذي كشف مدى استخفاف النظام الإثيوبي بالنظام المصري، وتأخذ الناس بعيدا تجاه الحد الغربي حيث المناورات التي أعلن عنها الجيش المصري وكأن طبول الحرب تدق وبقوة، فقد أعلن السيسي خط سرت-الجفرة خطا أحمر، ولكننا لم نسمع الإعلان عن خط أحمر بخصوص سد النهضة! فهل يتحرك السيسي تجاه ما يحدث في ليبيا باعتباره أمرا يخص مصر ويؤثر على أمنها (القومي)، أم هو مجرد منفذ لسياسات أمريكا في ليبيا؟!
الحقيقة أن نظام العسكر هو الخطر الأكبر على أهل الكنانة، فما جنى الناس من ورائه إلا فقرا وذلا ومهانة، فقد تجاوز الدين الخارجي بنهاية حزيران/يونيو 2020م، نحو 124 مليار دولار، سيقع عبء تسديده على الجيل الحاضر والأجيال التي تليه، بينما استفاد السيسي وزمرته الحاكمة بملء جيوبهم وبطونهم بفسادهم وتكالبهم ووضع أيديهم على ثروة مصر العظيمة، ثم الادعاء أننا فقراء جدا! بالإضافة إلى تسارع نسبة التضخم الذي وصل إلى 6% خلال حزيران/يونيو الماضي، صعودا من 5% في أيار/مايو السابق له، مع عدم وجود زيادات في المرتبات تكافئ نسب التضخم وارتفاع الأسعار، وقد ارتفعت نسبة الفقراء في مصر إلى أرقام غير مسبوقة بإدخال نحو 5 ملايين مصري جديد تحت خط الفقر خلال ثلاث سنوات فقط. نعم قد نكون فقراء جدا كما قال السيسي ولكن هذا ينسحب على الشعب المسكين، بينما رجال العسكر ورجال الأعمال الذين ارتموا في أحضان النظام ووضعوا أيديهم على مقدرات البلاد أغنياء وأغنياء جدا.
في السنوات الأخيرة تم تقويض قدرة مؤسسات الدولة على مواجهة أية تحديات تتعلق بما يسميه النظام (الأمن القومي)، وذلك نتيجة انغماس المؤسسة العسكرية في أمور خارج نطاق مهامها الرئيسية المتمثلة في حماية حدود البلاد والدفاع عنها، فالمؤسسة العسكرية قد انغمست بشكل كبير في السياسة والتجارة وأعمال البناء والمقاولات والصناعات الغذائية...إلخ، مما يجعل البلاد غير قادرة عملياً على الدفاع عن مصالحها الحيوية بالشكل المفترض، ويزيد من تراكم التهديدات لأمنها القومي بشكل قد يدفعها إلى تقديم تنازلات مقابل مكاسب سياسية لحماية السلطة فقط. فقد تخلت السلطات المصرية عن جزيرتي تيران وصنافير، وتنازلت عن حقوق مصر في مساحات بحرية شرق البحر المتوسط لكيان يهود وقبرص واليونان، ولم يكن المقابل سوى مكاسب شخصية تتعلق بتثبيت سلطة السيسي ومؤسسته العسكرية. وها نحن نرى مدى العجز عن مواجهة مخاطر حرمان مصر من حصتها من مياه النيل نتيجة السد الذي تقيمه إثيوبيا، وهشاشة الأمن الغذائي للبلاد، وضعف الرعاية الصحية التي كشفت عنها جائحة كورونا، ثم يحاول النظام التغطية على فشله هذا بلفت الأنظار لما يحدث في ليبيا!
تحاول أمريكا استنساخ تجربة السيسي في ليبيا من خلال الدفع بالجنرال حفتر ليكون قيماً على البلاد بذريعة مكافحة الإرهاب، فيما تعمل أمريكا من خلاله على تقويض النفوذ الأوروبي وخاصة البريطاني في ليبيا، أو على الأقل تحجيمه. وهي تستعمل السيسي لتحقيق هذا الهدف، ولا يُمانِعُ النظام المصري من أي تدخل خارجي من شأنه أن يدعم مثل هذه الأجندة، ومن هنا ندرك أن حديث النظام عن أمن قومي أو مصالح مصرية حيوية ممثلة في منع تقدم قوات السراج بدعم تركي، ما هو إلا دجل يخفي وراءه عمالة لألد أعداء الأمة وهي أمريكا.
ولكن يبدو أن السيسي وأمثاله من حكام المسلمين لم يتعلموا الدرس جيدا، فكما تخلت أمريكا مرغمة عن عميلها السابق حسني مبارك تحت ضغط حراك الشارع، ستتخلى عنه يوم ينتفض الناس مرة ثانية على نظامه الذي أذاقهم الجوع والخوف، وحينها لن تنفعه أمريكا ولن ينفعه تأكيده بأن ما حدث في 25 كانون الثاني/يناير لن يتكرر مرة ثانية. فهذه الأمة أمة حية لا تموت، وإن غدا لناظره قريب.
رأيك في الموضوع