الانتخابات الرئاسيّة: السياق الدّولي العامّ:
أسقطت القوى الغربيّة الرأسماليّة الخلافة ومزّقتها دويلات صغيرة هزيلة ثمّ وضعت على كلّ مزقة عميلا لها سمّته حاكما. ومن المعلوم أنّ تنصيب رئيس أو تغيير برلمان في هذه الدّويلات لا يمرّ دون تدخّلها (الخفيّ حينا والسّافر أحيانا) ولا تشذّ تونس عن هذه القاعدة.
وإنّنا حين نريد أن نفهم حقيقة ما يجري من أحداث سياسيّة (وبخاصّة الانتخابات الرئاسيّة) فإنّ الاقتصار على النظرة المحليّة يكون أقرب إلى التضليل منه إلى التحليل، إذ لا بدّ من النّظر إلى الحدث في سياقه الدّولي العامّ، ذلك أنّ الدّول الغربيّة الاستعماريّة وفي مقدّمتها أمريكا وبريطانيا تسعى إلى الهيمنة على العالم وبخاصّة البلاد الإسلامية، ولذلك هي تحارب الإسلام وتعمل بالليل والنّهار للحيلولة دون عودة الخلافة، بل إنّ الدّول الكبرى تتخذ من الحيلولة دون إقامة الخلافة الزاوية الخاصّة التي ينظر من خلالها الساسة الغربيّون إلى العالم الإسلامي كلّه ومن ضمنه تونس. فصارت أعمال الدول الاستعمارية الكبرى تتكيف بهذه الزاوية، وصارت تنظر إلى الأعمال السياسية التي تجري في هذا العالم من هذه الزاوية. مما جعلها تعمل على فرض الديمقراطيّة فرضا لإقصاء الإسلام، وجعلها تساند الأحزاب "الإسلاميّة" التي استطاعت أن تطوعها وتعدلها حسب المفاهيم الغربية الرأسمالية، وجعلها تحذر من الخلافة ومن حزب التحرير، وجعلها تصطنع الإرهاب لتصم به الإسلام وحملة الدّعوة لتعلنها حربا عالميّة تشوّه بها الإسلام والجهاد وتحاول إرعاب الشعوب الإسلاميّة، وجعلها تنفق المليارات من أجل دعم الانتخابات في العراق وفلسطين وأفغانستان وتونس. في تدخّل سافر، أدواته وسط سياسيّ يعجّ بالعملاء والمرتزقة المأجورين، وفي هذا الإطار تمّ تنظيم العمليّة الانتخابيّة لـ:
- تثبيت النّظام الدّيمقراطي ترسيخا لهيمنته.
- الإيهام بتغيير لن يحصل.
- إقصاء الإسلام من الحكم والتشريع.
- الإمعان في فصل تونس عن امتدادها الطبيعي الذي يتمثل في البلاد الإسلامية التي كانت موحدة تحت دولة الخلافة.
دلالات فوز قيس سعيّد بالرئاسة:
وضمن هذه الرؤية نقرأ فوز قيس سعيّد في انتخابات الرئاسة:
1- تمّت هذه الانتخابات ضمن الإطار الدستوري والقانوني الذي فُرض على التونسيين فرضا فكانت العملية الانتخابية آلية لاختيار الأشخاص الذين سيتولون تنفيذ قواعد النظام السائد (الدستور والقوانين). وبالتالي كانت هاته الانتخابات وسيلة لتثبيت النظام وليس لتغييره. ويتأكد الأمر إذا وضعنا في الاعتبار أن قيس سعيد الفائز هو أستاذ القانون الدستوري ولم يخف تقيده بهذا الدستور واحترامه، بل أقسم على المحافظة عليه وحسن تطبيقه.
2- ولكن هل انتخب التونسيّون قيس سعيّد من أجل تطبيق الدّستور؟ للإجابة على هذا السؤال نذكّر بأمرين اثنين:
- أولهما موقف التونسيين من الدستور، إذ بيّنت مجريات الأحداث أنّ دستور 2014 لا يحظى بالاحترام فضلا عن الولاء له، ويذكر الجميع أن المجلس التأسيسي بعد أن صادق على الدستور أراد أن ينظم شهرا يطوف فيه أعضاؤه في الولايات للترويج للدستور وأخذ الولاء له من عموم الشعب، غير أنهم فوجئوا برفض عارم من أول جولة إذ واجههم شباب القصرين وسيدي بوزيد بتمزيقه، واضطر وقتها نواب التأسيسي إلى إلغاء جولتهم حفظا لماء الوجه.
- أما الأمر الثاني فإن الذين ذهبوا إلى الانتخابات (وكانوا أقلّ من النصف) كان ذهابهم خوفا من عودة "الحرس القديم" العملاء البيّنة عمالتهم للمستعمر الذين يُمثّلهم نبيل القروي الذي لم ينس أهل تونس له معاداته للإسلام حين حاول أن يعرض فلما مسيئا للذات الإلهيّة "برسيبوليس" في قناته التلفزيّونية، وأنّ اختيارهم لقيس سعيّد لم يكن لرأيه في الدّستور إنّما كان لرفضه للمساواة في الميراث وموقفه من المثليّة الجنسيّة واعتباره التطبيع مع كيان يهود خيانة عظمى وهي قضايا ذات علاقة بالإسلام وموافقة مواقف قيس سعيّد لحكم الإسلام فيها هو الذي أعلى من شأنه بدليل أنّ بعض المرشّحين في الرئاسيّة في الدّور الأوّل كانت لهم بعض من الشعبيّة تقرب أو ربّما تفوق شعبيّة قيس سعيّد، لكنّ مواقفهم المعلنة من تلك القضايا كان مخالفا لأحكام الإسلام فكان سقوطهم مدوّيا وبقي من بينهم قيس سعيّد. هذا إضافة إلى ما قيل عنه من نظافة اليد والنّزاهة والصّرامة فضلا عن عدم سابقة له في الحكم.
وفي هذا دلالة واضحة أنّ التونسيين لا يحدّد اتّجاههم الدّستور ولا القوانين الوضعيّة بل يزيدهم نفورا كلّ من طعن في الإسلام أو في أحكامه المعلومة، ممّا يعني أنّ اختيارهم لقيس سعيّد كان نتيجة تصوّر عامّ أنّه من خارج المنظومة القديمة، وهنا دلالة أخرى أنّ النّظام الذي أرساه المستعمر ويجهد لترسيخه عبر الانتخابات يتهاوى ولا يُبقيه إلا أثر من غشاوة (نزاهة الرئيس الجديد ونظافة ويده وأنّه لم يعرف عنه عمالة أو خيانة) سرعان ما تزول.
3- تبيّن الأحداث الجارية في تونس أنّ التونسيين ما عادت تخدعهم الزّعامات المضلّلة فقد يختارون الرّجل اليوم ويحتجّون عليه غدا، بل قد يخلعونه خلعا ولا يلتفتون إليه بعدها، ومما يدلك على ذلك هو أن الاحتجاجات لم تتوقف رغم الانتخابات بل نراها ازدادت وتيرتها في زمن الحملات الانتخابية، وهذا أمر غير طبيعي، فلو كانت الانتخابات عندهم وسيلة للتغيير لتركوا الاحتجاج ولهرعوا إلى صناديق الاقتراع ليُعاقبوا الحكام الحاليين وينتخبوا غيرهم، ولكنهم عرفوا أن الانتخابات لن تغير من الأمر شيئا فلم يلتفتوا إليها، كما أنّهم لا يثقون في النّظام الحالي فكانت الاحتجاجات هي سبيلهم الوحيد لنيل بعض حقوقهم من الفئة المتسلّطة عليهم. وما زالت الاحتجاجات قائمة حتّى بعد إعلان فوز قيس سعيّد، ولم تتوقّف ولا نرى مؤشّرات على توقّفها، وفي هذا دلالة واضحة أنّ الوسط السياسيّ القديم الذي يعجّ بالعملاء والمرتزقة قد صار أداة بالية مهترئة بيد المستعمر فأنّى له أن يُديم سيطرته على تونس وعلى المنطقة؟ فهل يكون قيس سعيّد وأمثاله هو المخرج؟
4- الحاصل من كلّ ما سبق أنّ الكافر المستعمر لئن "ربح" جولة أخرى، فإن ربحه مغشوش وأن غشه منكشف وما عاد يستطيع إخفاءه، فالنظام الديمقراطي لا يضمن استقرارا في البلاد يُمكنه من الهيمنة، ومعلوم أن الغرب يريد أن يجعل من تونس نموذجا "ديمقراطيّا" لبقيّة البلاد الإسلامية، لكنّ احتجاجات التّونسيين المتواصلة ورفضهم لكل ما يعادي دينهم جهرة ورفضهم الخضوع للاستعمار، فتح الباب لباقي الشعوب الإسلامية للثورة ضد الأنظمة مما جعل كامل المنطقة الإسلامية متفجّرة تطيح بالعملاء والمرتزقة وتهتك الأستار عن أوساط سياسية خائنة متعفنة، وتتفلت تريد التحرر الحقيقي وتريد نظاما عادلا ودولة حقيقية تجمع شملها وتعيد مجدها.
5- من أوضح الواضحات في هذه الانتخابات أن الشعب التونسي المسلم لا ينفك يبحث عن قيادة حقيقية تقوده ليتحرر من الاستعمار وتقوده ليُكوّن دولة حقيقيّة، ولن يتوقف حتى يجد القيادة الصادقة الحقيقية التي تقوده بالإسلام العظيم ليواصل مسيرة النور والخير التي بدأها النبي eلتحرير البشرية جميعها وإخراجها من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن جور الرأسمالية والديمقراطية إلى عدل الإسلام.
بقلم: الأستاذ محمد الناصر شويخة
رئيس المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية تونس
رأيك في الموضوع