الخيال السياسي هو توقع حدوث ما يصبو إليه الشخص في خضم أحداث عامة بناء على توهم ليس له علاقة بمعطيات الواقع، أو هو حالة اندفاع شعوري قوي ينتاب الواعي سياسيا في الاعتماد على تفسير الأحداث بناء على توقعات خيالية تملؤها الرغبة في حدوث الشيء أو أمنيات مستقبلية أو الشعور بالإلهام بما يشبه التراجيديا التمثيلية.
والفانتازيا كمصطلح أدبي وفني تعني الخيال والتوهم، ومكانها الطبيعي هو الإبداع الفني. أما إذا أخطأت طريقها وسكنت عقل رجل السياسة فلا بد أن تولّد فيه طاقة هائلة من الأوهام التي تشعره بقوة لا يمكن تخيلها. فيتحول إلى سفينة لا تحركها الريح بل هي التي تتحكم فيها، وإذا كانت الرياح أحيانا لا تأتي بما تشتهيه السفن، فهو على يقين بأن الرياح ستخضع لما تشتهيه سفينته. ويستمر مستمتعا بهذا اليقين الممتع إلى أن تأتيه الضربة من الواقع المحيط به ليذكره بوجوده. أليس من المدهش أن اللغة العربية اشتقت كلمة توقع من الواقع. فالقدرة على التوقع هي نفسها القدرة على فهم الواقع ثم استخدام عناصره لتحقيق الهدف السياسي.
إن الخيال السياسي لهو من أسوأ ما ابتليت به الأمم والشعوب والأفراد في تدمير التفكير السياسي الذي بدوره يجعل منهم أسرى للأوهام والأماني فيحول بينهم وبين الانعتاق من قبضة العدو المتسلط عليهم، وهذا ما ورد في كتاب التفكير للشيخ تقي الدين النبهاني رحمه الله عندما تحدث عن آفات التفكير السياسي حيث قال: "إن سوء التفكير السياسي هو الذي يدمر الشعوب والأمم، وهو الذي يهدم الدول أو يضعفها، وهو الذي يحول بين الشعوب المستضعفة وبين الانعتاق من ربقة الاستعمار، وهو الذي يحول بين الأمم المنحطة وبين النهوض. ولذلك فإن التفكير في النصوص السياسية أمر بالغ الأهمية، ونتائجه فظيعة أو عظيمة. وأخطار الخطأ أو الضلال فيه أخطار مدمرة. ومن هنا كان لا بد من العناية الفائقة بالتفكير السياسي عناية تفوق العناية بأي تفكير. ذلك أنه ضروري للشعوب ضرورة الحياة." انتهى
إن هذه الحالة الخيالية التي تصيب السياسيين تجعلهم يتيهون في سكرات تصنع عندهم حالة من إنكار الحقيقة الملموسة فيما يعرف بحالة النكران وهي حالة يواجه فيها الشخص حقيقة غير مريحة مطلقا، فلا يستطيع تقبلها فيرفضها بدلا من ذلك، ويصر على أنها ليست حقيقة رغم وجود الأدلة الدامغة على صحتها.
ومن أسباب سيطرة الخيال السياسي أو ما يسمى الفانتازيا السياسية على تفكير السياسي، سيطرة حالة الولع المنطقي الوهمي في التفكير... حيث يتشكل يوما بعد يوم بناء على معطيات أولية ثم بناء نتائج متوقعة غير محسوسة وليس لها واقع. إن اعتماد الترتيب المنطقي المشبع بالأمنيات الذهنية تعطيه اندفاعا وجدانيا في التعاطي مع الأحداث.
إن هذه الحالة أيضا تتكون في ذهن الواعي سياسيا بناء على سكرات وجدانية لها بعدها الغريزي أو الديني الممزوجان بنزعة الظهور المنبثقة عن غريزة ضرورة بقاء الأفراد والشعوب، فتستحضر هذه السكرات في التفكير السياسي لتسهيل المهمة السياسية واختزال عناء التفكر فيها وإعطاء نتائج مريحة للنفس في ظل ذلك القهر السلطوي الممارس على الناس.
ومما يتسبب أيضا في هذه الحالة الخيالية السياسية هو التغذية الراجعة المحشوة بالأخبار الظنية التي تتحدث عن وقائع وأحداث غيبية وغيرها، والتعامل معها على أنها أخبار تلقائية الترتيب القدري التي تغذي فكرة إيجاد الحلول من خارج الواقع، وأن هناك حلا سحريا قادما ليحقق الأمنية التي يحلم بها في أخذ الدور البطولي والريادي والذي يوجد حالة من الاستغناء عن التتبع السياسي اليومي ظنا منه أن الأمور صائرة إلى حيث ما توصل إليه الحالة الشعورية التي نتجت عن التصديق الجازم القدري.
ومن حالات تلك الفانتازيا قد يلجأ بعض السياسيين إلى الاعتماد على المنجمين والعرافين لإعطائه ذلك التصور الذي يجعله كالرحى يدور حوله ليقوم بأعمال من شأنها الوصول إلى حيث توهم وتوقع ذلك العراف الكذاب.
ومن تلك الأسباب لهذه الظاهرة السياسية أيضا أن رجل الدولة أو السياسي ما يهمه بالدرجة الأولى هو ماذا سيقول عنه التاريخ وماذا سيكتب عنه المؤرخون، فتجد عينه دائما على المؤرخ.
وكذلك الزعيم الثوري صاحب الأفكار الفانتازية فعينه على الشارع، وليس على كل الناس في الشارع، بل على هؤلاء التعساء الذين استولت عليهم الكراهية والعجز عن التعامل مع الواقع. من هنا يأتي حرص الزعيم الثوري على زيادة عدد العجزة التعساء لكي يضمن جمهورا أكبر وأكثر استجابة لغوغائيته إلى أن تحدث له ضربة يستحيل التنبؤ بمصدرها.
لكن عندما يرى المصاب بالفانتازيا السياسية أو يسمع ما يخالف توقعاته أو أحلامه الوردية فإنه أمام ثلاث ردات من الفعل:
أولا أن ينكر حقيقة واقعية لأنها غير سارة له، أو أن يقلل من حالة الإنكار فيها فيعترف بالحقيقة، ولكن يقلل من شأنها، فينكر جديتها أو خطورتها (بمعنى أنها مزيج من الإنكار والتبرير). أو أن يتعامل معها بمحاولات إلقاء اللائمة على الغير، وفيها يعترف بكل من الحقيقة وجديتها أو خطورتها، ولكنه ينكر مسؤوليته تجاهها بإلقاء اللوم على شخص ما أو جهة ما أو أي شيء آخر.
ولا يفهم من ذلك أن الاعتماد على الإيمان بقطعية نزول النصر من عند الله أو الرجاء من الله أثناء سير حمل الدعوة هي من قبيل الفانتازيا السياسية، لأن حامل الدعوة أو السياسي يأخذ بالأسباب المادية الكونية الموصلة إلى الفوز على الخصوم والانتصار على الأعداء وإقامة الكيان الذي يحمل مبدأ الإسلام رسالة للعالمين متوكلا على الله موقنا بنصر الله.
وفي الختام فقد ورد في المفاهيم السياسية لحزب التحرير ما يدعو الواعي سياسيا أن ينبذ الأماني والأوهام والميول والخيالات أثناء عملية التفكير السياسي واعتبرها من الآفات التي تفتك بالتفكير السياسي وتفسده، فقد قال الحزب في كتاب مفاهيم سياسية: "إلا أنه نظراً لالتزام الواعي سياسيا زاوية خاصة، ولوجود ذوق معين له، وميول معينة لديه، طبيعية كانت أو مبدئية، فإنه يخشى إن لم يع على نفسه أن يلون الحقائق باللون الذي يهواه، وأن يؤوّل الأفكار على الوجه الذي يريده، وأن يفهم الأخبار بحسب النتيجة التي يريد أن يصل إليها؛ ولذلك يجب أن يحذر من تسلط ميوله على الآراء والأنباء. فرغبات النفس لشيء ذاتي، أو حزبي، أو مبدئي، ربما تجعله يفسر الرأي أنه صدق وهو كذب، أو يخيل إليه أنه كذب وهو صدق؛ ولذلك لا بد من أن يتبين الواعي الكلام الذي يقال، والعمل الذي يعمل. فبالنسبة للوقائع، أشياء كانت أو حوادث، يجب أن يدركها إدراكاً حسياً، وأن يحس بها حساً منطقياً، ولكن كما هي، لا كما يحب ويرغب أن تكون. وبالنسبة للأفكار، يجب أن تُفهم كما هو واقعها، فينتقل في ذهنه إلى الخارج: خارج الذهن، ويرى ببصيرته الواقع الذي يعبر عن الفكر، ويفهم هذا الفكر، حسب رؤيته للواقع الذي يدل عليه، كما هو، لا كما يتفق مع ما يريد". انتهى
بقلم: الأستاذ عبد العزيز محمد
رأيك في الموضوع