لقد سيطرت الرأسمالية على العالم ردحاً من الزمان، وما زالت، حيث سادت خلاله أنظمة قامت على فصل الدين عن الحياة، وحكمت على امتداده دول، لم ترحم الضعفاء، ولم تأخذ بأيدي الفقراء، بل كانت وظيفتها الوحيدة، هي حماية اللصوص من أرباب المال لنهب الثروات واستغلال الشعوب، وهو مبدأ مادي لا يعرف أي شيءٍ، سوى القيمة المادية، ولذلك لم تسلم الرعاية الصحية، من جَور الرأسمالية، فأضحت أداةً لأصحاب رؤوس الأموال يستغلون هذه الخدمة كما استغلوا كل الخدمات؛ لمص دماء المرضى، والضعفاء، وسلب أموالهم لإشباع نزواتهم وجشعهم الرأسمالي.
ومن فحش الرأسمالية أن ظهر الفساد في كل نواحي الرعاية الصحية؛ في نظام التأمين الصحي، وشركاته، وشركات الأدوية، وأبحاثها، واستغلال هذه الشركات للأطباء والمرضى، وأصبح المريض مصدر دخل أساسياً لهذه الشركات، وظهر الفساد كذلك في بدعة الملكية الفكرية وبراءة الاختراع، حتى غلا سعر الدواء، وأضحت القضية، هي تحقيق الربح على حساب حاجة المرضى علاجاً ورعاية، حيث لا بقاء ولا حياة للضعفاء، ولا قيمة إلا للمال في ظل الجشع الرأسمالي.
لقد ضج الغرب نفسه من هذا الفساد الصحي مما اضطر دوله إلى الترقيع كعادتها، وتوفير بعض الرعاية الصحية القاصرة لرعاياها تخديراً لهم، وصرفاً عن إزالة أصل الفساد، ولكن هذا الترقيع كان كسرابٍ بقيعةٍ يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه وجده السم الزعاف. فقد جاءت تقارير الغرب تكشف اللثام عن فساد الرأسمالية في مجال الصحة، خاصة الصحة النفسية والعقلية، حيث أعلنت منظمة الصحة العالمية عام 2005م، عن أن قضية الصحة الرئيسية في إنجلترا وأمريكا وكندا هي الأمراض العقلية والنفسية، وحسب إعلان المؤسسة القومية الأمريكية للصحة العقلية فإن 26% من الأمريكيين يصنفون الآن كمرضى نفسيين، وأكثر هذه الأمراض انتشاراً هو الاكتئاب والقلق، ففي عالم اليوم 330 مليون إنسان مصاب بالاكتئاب، وأشارت منظمة الصحة العالمية إلى أن 800000 شخص من هؤلاء المكتئبين ينتحرون كل سنة، هذا فضلاً عن القلق والاكتئاب، والأمراض النفسية الأخرى، التي تصل نسبتها في بعض التقارير إلى حوالي 45% من سكان العالم، وللعلم فإن نسبة الأمراض النفسية تتلاءم باضطراد مع مقدار إيمان الأفراد بها كمبدأ، ففي دراسة أخرى لمنظمة الصحة العالمية، نشرتها (مجلة فوربس) ظهر أن 10% من الأمريكان يعانون من الأمراض النفسية ومنها الاكتئاب على مدار السنة.
أما الصحة الجسدية فيكفي أن نقول إن في أمريكا وحدها أكثر من 46 مليون أمريكي بدون تأمين صحي، من بينهم أكثر من 8 ملايين طفل دون سن الـ18. أي أن هؤلاء لا يتلقون من الدولة أي علاج، ولا رعاية صحية، كعادة الرأسماليين، فالفئات الضعيفة في المجتمع الرأسمالي لا مكان لها ولا حقوق، سوى خدمة الرأسماليين. وأما مرض الإيدز الذي أنجبته الحضارة الرأسمالية بانحلالها، فإن ضحاياه بين كل عشرة آلاف أمريكي يموت كل عام 27 شخصاً. هذا فضلا عن مخلفات الرأسمالية الصحية في بلاد العالم الثالث، التي يشيب من هولها وبشاعتها الولدان.
إنّ هذه الحالة الصحية التي يرثى لها في العالم بعيدة كل البعد عما كانت عليه زمن الخلافة، فمنذ عهد رسول الله e حتى هدم الخلافة العثمانية، والدولة تولي قطاع الصحة اهتماماً كبيراً، فقيام رسول الله e بالأمر ببناء خيمة لعلاج الجنود المصابين وتقديم الرعاية الطبية لهم في غزوة الخندق، والمستشفيات التي بُنيت لخدمة الناس وراحتهم بغض النظر عن العرق أو الدين أو الجنس... إلخ. ومستشفى المنصوري الذي أُنشئ في القاهرة عام 1283م، والذي كان يتسع لأكثر من 8,000 مريض، لكل واحد فيه ممرضان اثنان، وسرير وفراش ووعاء أكل خاص به، حتى يتوفر له كامل الراحة والعلاج بالمجان، والمستوصفات والعيادات المتنقلة التي ترعى ذوي الاحتياجات الخاصة والذين يعيشون في المناطق النائية... كلها أمثلة قليلة على اهتمام الدولة في شئون الرعايا وحاجاتهم الطبية وقتذاك.
إن الرعاية الطبية هي حق للرعايا على دولة الخلافة؛ فقد ورد في مقدمة الدستور لحزب التحرير في المادة رقم (125): "أما الصحة والتطبيب فإنهما من الواجبات على الدولة بأن توفرهما للرعية، حيث إن العيادات والمستشفيات، مرافق يرتفق بها المسلمون في الاستشفاء والتداوي. فصار الطب من حيث هو من المصالح والمرافق. والمصالح والمرافق يجب على الدولة أن تقوم بها لأنها مما يجب عليها رعايته عملاً بقول الرسول e: «الإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» أخرجه البخاري عن عبد الله بن عمر. وهذا نص عام على مسؤولية الدولة عن الصحة والتطبيب لدخولهما في الرعاية الواجبة على الدولة، وهناك أدلة خاصة على الصحة والتطبيب: أخرج مسلم من طريق جابر قال: «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ e إِلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ طَبِيباً فَقَطَعَ مِنْهُ عِرْقاً ثُمَّ كَوَاهُ عَلَيْهِ». وأخرج الحاكم في المستدرك عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: «مَرِضْتُ فِي زَمَانِ عُمَرَ بِنَ الْخَطَّابِ مَرَضاً شَدِيداً فَدَعَا لِي عُمَرُ طَبِيباً فَحَمَانِي حَتَّى كُنْتُ أَمُصُّ النَّوَاةَ مِنْ شِدَّةِ الْحِمْيَةِ»."
فإلى عفو من الله وعافية ندعوكُمْ أيها المسلمون، وإلى علاج النفوس والقلوب وإخراج أنفسكم والناس أجمعين من جور الرأسمالية وشجعها ندعوكُمْ، إِلى العملِ لاستئنافِ الحياة الإسلامية، بإقامة الخلافة على منهاج النبوةِ ندعوكمْ، فهل أنتم مجيبون؟ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ [الأنفال 24].
بقلم الأستاذ: عبد العال الدسيس - الخرطوم
رأيك في الموضوع