ما إن يخرج العراق من مأزق إلا ويدخل في مأزق آخر أشد وأكبر بسبب سياسات الاحتلال ومشاريعه. فبعد طي صفحة تنظيم الدولة من قبل حكومة المركز وإعلانها الانتصار عليه، يخرج أكراد العراق بشعار "الموت لبارزاني ويسقط طالباني" و"لتسقط الحكومة الفاسدة" ليبدأ ربيع الأكراد ضد الفاسدين، حيث تشهد غالبية مدن إقليم كردستان، منذ الاثنين (18 كانون الأول 2017)، تظاهرات حاشدة للمطالبة بتحسين المعيشة وصرف رواتبهم المتأخرة منذ أشهر، واتسعت رقعة التظاهرات إلى العديد من مدن الإقليم تم خلالها إحراق مقار الأحزاب الكردستانية في هذه المناطق، وقامت القوات الأمنية بتفريق المتظاهرين بإطلاق النار والقنابل المسيلة للدموع ما أدى إلى مقتل وإصابة العشرات من المتظاهرين، حيث تصاعدت سحب الدخان من مقار الأحزاب الكردية الرئيسية في بلدة "بيرة مگرون" بمحافظة السليمانية الاثنين الماضي في حادثة ليست الأولى من نوعها، إذ سبقها حادثان مماثلان عامي 2011 و2015. لكن المختلف هذه المرة أن مقار الأحزاب الرئيسة الخمسة، الاتحاد الوطني والحزب الديمقراطي الحاكمين، والتغيير والجماعة الإسلامية المعارضين، والاتحاد الإسلامي استُهدفت كلها دون تفريق، في ما يعد أعنف تحرك يقوم به أهل المدينة منذ تظاهرات 2015. فخلال ثلاثة أيام، تم إحراق ما لا يقل عن 15 مقرا لأحزاب سياسية في الإقليم إضافة إلى مقر مجلس بلدي. أحد الناشطين ممن شارك بالاحتجاجات ذكر لقناة فرانس 24 "إننا نحرق مقار الأحزاب لأنها مشاركة في الحكومة ومسؤولة عن معاناة الشعب الكردي الاقتصادية والسياسية، فحرق المقار يعني أن المواطن الكردي يئس من جميع الأحزاب الكردية التي أوصلت كردستان إلى الإفلاس". وأن حكومة الإقليم تستقطع رواتب الموظفين، وحتى أسعار وقود التدفئة مع حلول فصل الشتاء ارتفعت إلى 150 دولارا للبرميل (200 لتر) أي إلى ضعف ما كانت عليه قبل عامين. ولا تصل الكهرباء إلا أربع ساعات في اليوم ويعجز الناس عن تحمل تكاليف الحصول عليها من المولدات.
أما سيريل روسيل المتخصص في شؤون الإقليم فقد ذكر "أن هناك شعوراً لدى الناس بالخيانة والإهانة، وهم يحملون الأحزاب السياسية مسؤولية الأحداث الأخيرة"، في حين قال النائب عن الجماعة الإسلامية الكردستانية، زانه سعيد: إنّ "الشعور باليأس من قبل الشعب الكردستاني تجاه حكومة الإقليم وإصلاحاتها المزعومة، بسبب فشلها على جميع الصعد، دفعهم للخروج بمظاهرات غاضبة". وأوضح أنّ "حكومة إقليم كردستان تستحقّ ثورة شعبية وليس تظاهرات فقط؛ لكونها لا تستجيب لمطالب شعبها والمناشدات الدولية والمحلية، وأصبحت مشغولة بمصالحها وشراكاتها الحزبية"، أما سلطة الإقليم فقد ذكر مصدر محلّي بمدينة السليمانية أنّ "السلطات في المحافظة استقدمت قوات إضافية من السليمانية (المدينة) وأربيل إلى المناطق التي تشهد احتجاجات متواصلة وبرز الحديث عن ضرورة إرسال قوة عسكرية من بغداد إلى السليمانية للسيطرة على الأوضاع المتأزمة هناك، خوفاً من تطوّر الاحتجاجات ودخول جماعات مسلحة بينهم". وأوضح لــ"الخليج أونلاين" أن "القوات الكردية نفّذت حملات دهم واعتقالات، بحثاً عن ناشطين مؤيّدين للحراك الجماهيري الذي تشهده المحافظة، إضافة إلى ملاحقتها عدداً من الصحفيين لمنع نشر أي صور أو تسجيلات تظهر حقيقة ما يجري داخل الإقليم". ولفت المصدر، الذي طلب عدم كشف هويته، إلى قطع التيار الكهربائي وخدمات الإنترنت عدة ساعات، عن بعض المناطق التي شهدت تصعيداً في الاحتجاجات.
المتظاهرون رفعوا شعارات منددة بالأحزاب كلها، ما يرجح أن الاحتجاجات جاءت لتؤكد فشل الأحزاب في إدارة الإقليم ما بعد احتلال 2003، وهي الفترة التي تمتع فيها الإقليم بوضع أفضل ماليا وسياسيا في ظل العملية السياسية. مراقبون محليون ذكروا أن أسبابا كثيرة تغذي هذه الاحتجاجات أولها فساد القائمين على السلطة واستئثارهم بثروات الإقليم ونهبهم للمال العام والتغاضي عن مطالب حياتية في سنوات سابقة، لكن السلطات كانت تميل إلى اعتبار أن تلك المطالب غطاء لأهداف سياسية. وتوقع هؤلاء المراقبون أن تتمدد هذه الاحتجاجات لتشمل أربيل ومختلف المناطق الواقعة تحت سيطرة حزب البارزاني، لافتين إلى أن الشعارات التي رفعت إلى حد الآن لم تستثن أي جهة أو حزب، ما يعني أن الغضب يشمل مختلف مكونات المنظومة الحزبية والسياسية، وأنها قد تكون مقدمة لربيع كردي أوسع. أحد المتظاهرين وهو شاب جامعي في كفري، مخاطبا حكومة الإقليم "لم تستطيعوا الدفاع عن المناطق المتنازع عليها (واليوم) لا تستطيعون إدارة النصف الباقي"، في إشارة إلى مدينة كركوك الغنية بالنفط التي استعادت الحكومة الاتحادية السيطرة عليها مع مناطق أخرى.
وهكذا يبدو أن الاحتجاجات خرجت عن مسارهـا، على اعتبار أن الهدف الذي خرجت من أجله الإصلاحات وصرف رواتب الموظفين ومحاسبة الفاسدين، لكن المتظاهرين رفعوا سقف مطالبهم وأخذوا يطالبون بإسقاط الحكومة، وهو ما ينذر بتحوّل الاحتجاجات إلى ثورة شعبية مسلحة لإسقاط النظام تعيد إلى الأذهان سيناريو ما حدث في ساحات الاعتصام بمحافظة الأنبار، التي كانت السبب باندلاع صراع مسلّح دام لأكثر من 3 سنوات، مخلّفاً دماراً هائلاً في البنى التحتية، وقتل وخطف آلاف الأبرياء.
لقد بات إقليم كردستان الذي تمتع خلال المرحلة الماضية باستقرار نسبي مقارنة ببقية مناطق العراق، يعيش أوضاعا مضطربة، وخصوصا بعد الاستفتاء الذي أجراه الرئيس السابق للإقليم مسعود بارزاني في 25 أيلول/سبتمبر الماضي، وقوبل برفض المجتمع الدولي والحكومة المركزية والقوى الإقليمية، ونتيجة للسياسات المجحفة التي اتبعها البارزاني تجاه الإخوة الكرد، فعلى مدى سنوات طوال وُضعت تحت يده موارد ضخمة متمثلة بالمنافذ الحدودية وموارد تصدير النفط دون رقابة، مع 17% من موارد الدولة العراقية. ومع كل تلك الموارد فقد تسببت السياسات الخاطئة والسرقات وصفقات الفساد بانهيار الواقع الاقتصادي وتجويع قطاعات واسعة من الشعب الكردستاني، وكان التبرير لتلك الأزمات وخاصة الأزمة الاقتصادية، يرمى على عاتق الدولة الاتحادية التي هي الأخرى منبع للفساد وخزان للشرور، فالمحافظات الخاضعة لسلطة بغداد شاهد حي على حجم الظلم والفساد والدمار الذي وقع عليهم جراء سياسة حكومات الاحتلال المتعاقبة؛ فالإهمال المتعمد للبنى التحتية والدمار الذي أصاب جميع مناحي الحياة جراء الحروب المفتعلة مع سرقة المال العام واختفاء المليارات لصالح رجال السلطة ومرتزقتهم، فهم وحكومة الإقليم في الفساد والظلم والدمار سواء لأنهم قد خرجوا من رحم واحد وولاؤهم للكافر المستعمر. ففي كردستان وطوال العشر سنوات الماضية تمت سرقة أغلب العائدات المالية لصالح أحزاب السلطة وقسمت بينهم أغلب الواردات، واختفت لأعوام عدة موازنة الإقليم لصالح مسعود البارزاني وعائلته وحلفائه وبقية الأحزاب الحاكمة، ترافق ذلك مع إفقار الناس وإذلالهم بحجة توفير الأمن، وشكلت مليشيات لقمع أي رأي مخالف للسلطة وخنق الإعلام، وروج للدكتاتورية، وأصبح الوضع في كردستان لا يطاق بسبب تلك السياسات العجفاء والقاسية. ففي أربيل لا يمكن مع وجود نظام بوليسي قمعي، القيام بأية تظاهرة أو مخالفة للرأي أو المطالبة بأبسط مقومات العيش الكريم، التي سوف تواجه بالتكميم والتعتيم وحتى القتل.
وبناءً على ما تقدم فإن حل المشكلة الكردية لا يكون إطلاقاً بإنشاء دولة أو كيان مستقل لهم، لأنه سيكون حتماً تحت الحماية الغربية، فضلاً عن أن ذلك لا يمكن تحقيقه بدون رضا الدول التي فيها أكراد: تركيا والعراق وإيران وسوريا، وهذه مُجمِعة على عدم إنشاء كيان كردي في أي منها... وإنما حل مشكلة الأكراد، وغيرهم من القوميات يتم ضمن مشروع الأمة الواحدة، فالأكراد مسلمون والأتراك مسلمون كما أن غالبية العرب مسلمون، وكذلك الفرس والبربر والأفغان والباكستانيون وسواهم، وهم جميعاً أبناء أمة محمد عليه وآله الصلاة والسلام، فالدعوة بينهم يجب أن توجه إلى التوحد على كتاب الله وسنة رسوله، وعلى العمل لإيجاد الأمة الإسلامية الواحدة ضمن الدولة الإسلامية الواحدة، التي تحكمهم بشرع الله، رعايا متساوين في الحقوق والواجبات، «لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ إِلَّا بِالتَّقْوَى»، ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾، فاقطعوا الأيدي الأجنبية الخبيثة التي تمتد للتدخل في شؤونكم، وحلّوا مشاكلكم بينكم دون مداخلات خارجية، فهي مشاكل بين إخوة، ومهما كان حجم هذه المشاكل، فإنها تحل بروح الأخوة الإسلامية، ولكنها تتفاقم وتتعاظم بالطروحات القومية أو الإقليمية والتدخلات الدولية. وعلى الإخوة الكرد أن يتصرفوا تصرفاً إسلامياً خالصاً ويفشلوا مخططات الأعداء ويفوتوا الفرصة عليهم وأن ينبذوا أمر العنصرية ويجعلوها تحت أقدامهم وأن يحاسبوا العملاء الذين يتزعمونهم، وأن يرفضوا حماية الأمريكان والإنجليز والفرنسيين لأنهم أعداء كفرة، وأن يعملوا مع العاملين لإسقاط أنظمة الكفر القائمة في بلاد الإسلام وإقامة الخلافة الراشدة الكفيلة بتحصيل الحقوق وإقامة العدل بين الناس وضمان العيش الكريم والحفاظ على أرواح الناس كل الناس وممتلكاتهم من أن يطالها معتد أو غاصب...
بقلم: علي البدري – العراق
رأيك في الموضوع