لقد أنتجت دهاليز أستانة الرابعة مؤامرة جديدة أطلقوا عليها تدليساً "المناطق المؤمَّنة" وقد كانت المنطقة الجنوبية واحدة منها، وقد سبق ذلك تمهيد إعلامي لطرح ما سمي "بوثيقة العهد" التي روجت لها جهات مشبوهة، وطرحتها بداية في أروقتها ثم للعلن ظناً من القائمين عليها أنها ستلقى رواجاً بين الناس ويقبلون بها، وكان الهدف منها هو محاولة "إشغال الناس" في تنافسات فئوية عشائرية ضيقة، والتمهيد للمشروع العلماني الذي طالما بذلت دول الكفر الغالي والنفيس في سبيل فرضه على أهل الشام المسلمين!
لكن وعي أهل حوران المسلمين - كما هي الحال عند عموم أهل الشام - كان بالمرصاد، فقد تنادوا لإسقاط هذه المؤامرة المسماة بوثيقة العهد حتى بات أصحابها يخجلون من الجهر بها، وكذلك تسارعت وتيرة المعارك في المنشية، حتى تم دحرُ قوات النظام والمليشيات المساعدة له فتراجعوا يجرون أذيال الهزيمة، وكانت خسائرهم جسيمة، بعد أن كان النظام قد أعد خطة محكمة يسيطر بموجبها على معبر الجمرك القديم مع الأردن ويقطع أوصال حوران إلى شطرين يساعده في تنفيذ ذلك بعض الذين باعوا دينهم بدنيا غيرهم.
وهنا بدأت الحملة الشرسة من قبل الطيران الروسي وطيران النظام، إضافة لقصف المناطق بكافة أنواع الأسلحة المدمرة، وبدأ التضييق من جديد على الثوار المخلصين، بكل أشكاله، وشعر المقاتلون بالعوز الشديد، فالتجأوا إلى الناس، إلى أهلهم فتقاطرت الجموع إلى المساجد تنفق الغالي والنفيس لدعم هذه الثلة القليلة التي شعر الناس بصدقهم وإخلاصهم، وقد عُرضت حالات من العطاء، أعادت لنا ذكرى أمجاد الصحابة الكرام رضوان الله عليهم في البذل والإنفاق!، ففي يومين جُمعت مئات الملايين من الليرات، إضافة للتبرعات العينية المتنوعة. وقد كان لافتاً الإقبال على التبرعات في المناطق التي طالما كان يعتبرها النظام قد عَقدت معه "مصالحة وطنية"!
إن هذا الوعي الذي تميزت به ثورة الشام على مدى أكثر من ست سنوات مضت، لهو بيضة القبان في مجريات الأمور فيها، فقد أرادت أمريكا وأتباعها إخضاع إرادة الناس لحلها السياسي الخطير، من خلال تطويع الناس للقبول بإعادة إنتاج النظام وفرض المشروع العلماني عليها، وقد سلكت في سبيل ذلك أخبث السبل وتحت مسميات برَّاقة، لكنها كلها تحطمت على صخرة ثورة الشام المباركة، فقد أرادت تجميد الجبهات مع النظام تمهيداً لوقف القتال معه وصولاً إلى الحل السياسي الأمريكي، لكن ما لبثت أن اشتعلت المنطقة الجنوبية، فلم تقتصر على قلة مخلصة في مدينة درعا، بل وتحت ضغط من الناس تحركت فصائل في مناطق طالما كانت تتذرع بذرائع عدة مبررة جمودها، فأصبحت مواقع النظام تحت مرمى الثوار وقد قصفت مطارات ووحدات طالما كانت تعتبر نفسها خارج مرمى الثوار.
إن التفاف الناس حول معركة "الموت ولا المذلة" أعطى زخماً كبيراً للثوار، وسارعت المجموعات المخلصة من جميع الفصائل، رافضة أوامر قادتها المرتبطين مع الداعمين، تسارعت إلى ساحات المعارك، فقد رأوا بأم أعينهم الآثار المدمرة للمال السياسي القذر بل القاتل، وأصبحت قناعة عند المقاتلين وعند الناس، وبأن سبيل الخلاص يبدأ بالتخلص منه ومن تبعاته، فالجهاد الطيب، لا يمكن أن يكون إلا بالمال الطيب وإن قل فالله عز وجل يقول: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ ...﴾.
ثم إن وعي المسلمين على ألاعيب الدول المستعمرة أصبح جلياً، وتأثيره في مجريات الأمور بات فعَّالاً، وأن مخرجات أي مفاوضات إنما تصب في مصلحة النظام ليس غير، وأن المفاوضين وخاصة زعيم الوفد الذي هو ابن حوران لا يمثل إلا نفسه وأنه يجب إسقاط كل هذه المؤامرات ونهج الطريق الصحيح الذي يؤدي إلى إسقاط النظام وإقامة نظام الإسلام.
فلم يعد يرهبهم إجرام القصف والتدمير، بل زادهم ثقة بأن النظام أصبح متهالكاً، وأنه يروغ منهم كما يروغ الثعلب، فهو الآن يطلب هدنة في درعا، بينما كان رد الناس بشكل عام أنهم يرفضونها، بل ويحذرون منها ويحثون القيادات على أن لا يقعوا في هذا الفخ، الذي ينصبه لهم النظام ليغطي على الخسائر التي مني بها ثم يعود كرّة أخرى كما حدث في مناطق أخرى.
لقد أثبتت الأيام أن ثورة الشام تستطيع بمعزل عن دعم دول الكفر وأعوانهم أن تحقق النصر على هذا النظام وتقيم النظام الذي يرضى عنه الله عز وجل، وأدركت كذلك بأن من كان يدّعي بالأمس "صداقته للشعب السوري" هو الداعم الأساسي للنظام القاتل، فهو الذي كبل الجبهات وأدار المؤامرات، حتى يجبر الناس على العودة إلى حظيرة النظام، تحت شعارات زائفة "وقف إراقة الدماء، والحفاظ على وحدة البلاد..."
وقد بين لنا الله سبحانه وتعالى هذا الأمر عندما قال: ﴿وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ﴾
كما وأثبتت الأيام بأن هذه الأمة هي أمة الخير، فقد دفعت بفلذات أكبادها في سبيل دينها على مدى التاريخ البعيد والقريب، وستبقى تفتدي بالغالي والنفيس ولا عجب في ذلك فقد وصفها الله عز وجل بأنها ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾! وقد بدا للناس عظم الدور المنوط بهم، فهم الأساس في تنفيذ أي مشروع أو إقامة أي نظام فعليهم المسؤولية الكبرى في ذلك، ولهذا كان الضغط والتآمر عليهم من خلال التجويع والتشريد والقتل والتدمير.
كما وأصبح عند الناس قناعة عامة بأن الأمة تحتاج إلى قيادة مخلصة واعية تجمع شملها وتوحد صفها، إلى رائد لا يكذب أهله، يبين لها الطريق حتى تسير إلى بر الأمان، إلى إسقاط النظام وإقامة دولة الإسلام دولة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة، وعد الله عز وجل وبشرى رسوله e ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا﴾.
بقلم: د. محمد الحوراني*
* عضو لجنة الاتصالات المركزية لحزب التحرير في ولاية سوريا
رأيك في الموضوع