برزت ظاهرة الإثارة الإعلامية في سياسة الرئيس الأمريكي الجديد عبر التصريحات الشاذة ثم التراجع عنها، وإعادة ضبط الموجة بالرؤى الاستراتيجية الأمريكية، ومن ذلك تصريحاته خلال زيارة رئيسوزراء كيان يهود نتنياهو لواشنطن الشهر الماضي، بأنه لن يصر بعد الآن على حل الدولتين، وقال "أنظر إلى حل الدولتين وحل الدولة... الحلان يناسبانني" (الجزيرة مباشر 16/2/2017).
ظاهريا، يمكن اعتبار ذلك التصريح انقلابا على الرؤية الأمريكية الراسخة القائمة على حل الدولتين، إذ وصفت وسائل الإعلام ذلك الحديث بالتمايز الجديد في السياسة الأمريكية حيال الشرق الأوسط. ولكن ذلك التحليل الخاطئ يخرج من معادلة الفهم السياسي لدى استحضار أدوار مؤسسات صنع القرار الأمريكي، وفهم طبيعة الحزب الجمهوري الصدامية، ونهج الإثارة في الظهور الإعلامي عند ترامب، وتكرار مشهد التراجع عن التصريحات لديه. ومن ثم فإن الفهم الصحيح يعيد الأمور إلى سكة المفاوضات الأمريكية، التي لا تختلف بين الإدارة الديمقراطية والجمهورية وإن اختلفت فيها الأساليب.
تلك المفاوضات التي ظلت تطحن الهواء وتغلي الماء في القدر الأمريكي بلا نتيجة واقعية، غير مزيد من الذل والهوان تحت وقع المشروع الأمني، الذي مكّن المحتل اليهودي من تحقيق مزيد من الهيمنة واحتلال الأرض ومزيد من القتل والتدمير، والاختراق للأنظمة العربية في ظل استرخائه، وهو يجد أن ثمة وكيلا من أهل فلسطين يحفظ أمنه وأمن مستوطنيه بلا تكلفة، بل يتم ذلك على حساب أهل فلسطين.
ورغم ذلك، فإن قادة منظمة التحرير (التفريط) الفلسطينية، يتعامون عن هذه الحقيقة البشعة لمسيرة المفاوضات، ويظلون يلهثون خلف سراب الحل الأمريكي، كيف لا وقد قبلوا بسلطة هزيلة أجيرة اعتبروها من منجزات المشروع الوطني الاستثماري؟ وجعلوا التنسيق الأمني مقدسا، وقبلوا بفلسفة تحويل "المناضلين القدامى" إلى موظفين في الذراع الأمني للمحتل. ولا يمكن أن يفكروا في الخروج من صندوق المفاوضات، مهما دفعوا من كراماتهم تحت "بسطار" نتنياهو، وهم قد رهنوا مواقفهم ومستقبلهم لكيانيهود ولأمريكا.
على الجانب الأمريكي، وبعد تلك التصريحات المثيرة، عادت إدارة ترامب للحديث عن أن المفاوضات المباشرة بين كيان يهود والسلطة هي الحل وهي التي ستجلب السلام والأمن والاستقرار للطرفين، وفي ذلك عود على ذي بدء، إذ إن إدارة أوباما الديمقراطية كانت في ختام مرحلتها قد أعلت نبرة الحديث عن الحراك السياسي نحو "حل الدولتين" عبر المفاوضات، مع إطلاقها "لرؤية كيري الشاملة"، والتي تضمنت "مبادئ كبرى" للمفاوضات أهمها الدولة الفلسطينية "غير المعسكرة"، مجاورة لدولة "للشعب اليهودي"، مع حفظ أمنها، مع التطبيع الشامل حسب "مبادرة السلام العربية".
ومن ثم فإن إدارة ترامب الجمهورية سوف تعيد سياق المفاوضات إلى السكة نفسها، وهي ستحرص ككل إدارة أمريكية سابقة على إبقاء خيوط اللعبة بيدها، ولن تسمح لأي جهة دولية أن تحظى بفرصة التدخل الحقيقي في الحل، ولا يمكن لإدارة أمريكية أن تضخ الدماء في جثة "حل الدولة الواحدة"، الذي كانت بريطانيا قد طرحته بعد إصدار وعد بلفور بسنوات. وقد حذفته أمريكا من الحضور السياسي منذ أن نجحت في تشكيل "اللجنة الرباعية"، وخضعت بريطانيا ومعها القوى العالمية للحل الأمريكي.
ولا يعقل أن ينقلب رئيس أمريكي على ذلك التفرد الأمريكي بالحل، وعلى إدارة مسيرة المفاوضات، مهما علا مستوى الإثارة الإعلامية لديه. وأبعد ما يمكن لإدارة ترامب هو تجريب أسلوب آخر في الضغط لتمرير الحل الأمريكي. ويجب التأكيد على أنه ليس من المتوقع حدوث تغيير في الخطوط الأمريكية العريضة، وإن حصل تغيّر في الأساليب، لأن ثمة مؤسسات سيادية تصنع القرار الأمريكي، وهناك تقاسم راسخ في الصلاحيات.
ولذلك عاد قادة السلطة للتماهي مع توجهات الإدارة الأمريكية، وسارعوا للاحتفاء بدعوة ترامب لرئيسها لزيارة واشنطن، ونقلت الجزيرة نت (في 11/3/2017) عن نبيل أبو ردينة المتحدث باسم الرئيس الفلسطيني القول إن ترامب قال لعباس إنه يرغب ببحث كيفية العودة إلى المفاوضات، وأكد على "التزامه بعملية سلمية تقود إلى سلام حقيقي".
ومع ذلك، من الممكن أن تزيد إدارة ترامب في الفسحة المتاحة لنتنياهو للمشاكسة والتعنت، إذ إن الصدامية الليكودية لدى نتنياهو تكون أكثر انسجاما مع الصدامية لدى الحزب الجمهوري، وهذا الالتقاء السياسي بين الليكود والجمهوريين هو ما راهن عليه نتنياهو خلال إدارة أوباما، حيث ظل يسوّف ويماطل آملا بعودة الجمهوريين للحكم في أمريكا، لتنفيس الضغوط التي يتعرض لها.
ولذلك، فإن قادة الاحتلال اليهودي سيعودون إلى نهج المماطلة ونكث العهود والاستيلاء على مزيد من الأراضي، في ظل إدارة ترامب، بل ليس مستبعدا أن يُتيح لهم نهج "القوة الصلبة" لدى الجمهوريين، من القفز نحو إراقة مزيد من دماءأهل فلسطين، ونحو تسخين الأجواء في غزة، وخصوصا أن حكومة نتنياهو هي حكومة "تفخيخ" سياسي، لديها قابلية التفجير العسكري في أي وقت.
ورغم وضوح ذلك للمتابع السياسي، تستمر السلطة "الوطنية" في نهج التنازل والاستخذاء، ولا يخطر ببال قادتها إعادة النظر في المسار السياسي الباطل والفاشل، مهما طالت سنوات المفاوضات العجاف، فلا خيار عندهم، ولا بديل لديهم، وقد جعلوا "الحياة مفاوضات"!
وخلاصة القول، إن رؤية أمريكا لقضية فلسطين ثابتة على حل الدولتين عبر نهج المفاوضات، مع قابلية التغيير في الأساليب، ومع فسحة تفعيل أسلوب القوة الصلبة (كنهج لدى الجمهوريين)، فوق مسار القوة الناعمة (لدى الديمقراطيين)، أو معه. لتظلّ مسيرة إجرام الحكّام مستمرة، وهم يرهنون الحراك السياسي في المستعمرين ويمنعون الأمة وقواها الحية من الحراك المبدئي وحشد القوة العسكرية للجيوش نحو التحرير الحقيقي، وهم يغيّبون الحل الشرعي الوحيد لقضية فلسطين، وهو التحرير لا التفاوض.
* عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في فلسطين
رأيك في الموضوع