شكل عام 2008 نقطة تحول في الاقتصاد العالمي؛ فقد أدت الأزمة المالية في عام 2007-2008 إلى ركود اقتصادي عميق سببته أزمة سيولة ضخمة. فقد أدت المضاربات والمقامرة المالية وخاصة في سوق العقارات، وهو سوق وصل أبعاداً خيالية وشمل استثمارات في الرهن العقاري من (النوع الرديء) في الأسواق الأمريكية، أدت إلى إنكشاف ميزانيات البنوك (بين حجم الودائع وحجم المضاربات).وقد وصل النمو العالمي للمنتجات المالية المشتقة، وهي ليست استثمارات حقيقية في أسواق الأسهم والسندات والعملات وغيرها ولكنها تعتمد على توقعات على كيفية تحرك تلك الأسواق، وصل إلى مستوى فاحش بلغ 1 كوادريليون دولار (أي عقود مقامرة ورهانات تبلغ قميتها أكبر من حجم الاقتصاد العالمي بـ15 مرة).
لمعالجة الركود الاقتصادي تصرفت البنوك المركزية بشكل سريع؛ إذ عمدت إلى طباعة تريليونات الدولارات لإنقاذ البنوك من الانهيار، وخفضت أسعار الفائدة في محاولة لتحفيز جولة جديدة من الاقتراض والنمو. في الاقتصاد الرأسمالي ينظر إلى النمو كقضية أساسية، وعادة يعرف الركود الاقتصادي بأنه فصلان متتاليان بنمو سلبي. مقياس النمو، أو عدمه، تسيطر على وسائل الإعلام المالية في الغرب. لماذا؟
يصور النمو على أنه أهم مؤشر على مقدار الثقة بطريقة تقدم الاقتصاد وكيفية إدارة السياسيين للشؤون المالية. عندما تنمو الاقتصادات يقال أن هنالك "شعورا جيدا" يدفع الناس إلى الإنفاق ويشجع رجال الأعمال على الاستثمارات مما سينتج المزيد من النمو؛ بينما يتميز الركود الاقتصادي بانخفاض في أعداد فرص الوظائف، والإحجام عن الاستثمار، ويزيد الضغوطات على ميزانيات المساعدات الاجتماعية الحكومية بسبب تزايد البطالة، كما تقفل الأعمال أبوابها غالبا بسبب تخلفها عن دفع القروض للبنوك.
تحديد مقياس النمو في الاقتصاد هو أيضًا عرضة للنقاش أو الجدل. فالناتج الاقتصادي هو حجم السلع والخدمات المنتجة خلال سنة مالية،ويسمى المقياس الناتج الإجمالي المحلي (GDP)، وقد شهدت اقتصادات بريطانيا وإيطاليا زيادةً في الناتج المحلي الإجمالي (يعد نمواً) نتيجةً لتضمين المدخولات عن طريق الدعارة وتجارة المخدرات غير الشرعية ضمن حسابات الناتج القومي!!. فالسياسيون ليسوا خجلين من تغيير أساس الحساب لجعل الأمور تبدو أفضل بالنسبة لهم. وقد حدث هذا عدة مرات في الأعوام الأخيرة.
أما المقياس الأكثر عقلانية لحقيقة نجاح الاقتصاد فيكون من خلال النظر إلى مستوى الفقر والمتشردين، ومستوى المعيشة للجميع، بدل اعتماد مقاييس انتقائية لنشاطات الأعمال التجارية (بشكل إجمالي) ومدى نموها. فقد تم تطوير مقاييس أخرى مثل "درجة جيني Gini" لقياس توزيع الثروة بين الناس. فدرجة "صفر" تعني توزيعًا متساويًا، أما درجة "1" فتعني توزيعًا غير متساو على الإطلاق بحيث يحوز عدد قليل من المشتركين في الأسواق على أغلبية الثروة. ومما يجب ذكره أن هذا الرقم يتجه إلى "1" في الدول التي تتبنى استراتيجية النمو. وقارن هذا مع الأوامر القرآنية ﴿كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ﴾ [الحشر: 7]
يركز المسلمون على تداول الثروة بما فيها تشجيع الإنفاق، والصدقات، والاستثمار الكامل (من خلال تحريم كنز المال). قال رسول الله e«يَقُولُ ابْنُ آدَمَ مَالِي مَالِي - قَالَ - وَهَلْ لَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مِنْ مَالِكَ إِلاَّ مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ»(رواه مسلم).
ركود اقتصادي جديد؟
شهد هذا العام بداية صعبة؛ ففي الولايات المتحدة، الاقتصاد الأكبر عالميًا، مستوى مبيعات التفرقة ضعيفة والإنتاج الصناعي ينهار، والأرقام التجارية العالمية في انحدار شديد. ثاني أكبر اقتصاد في العالم - الصين - يمر أيضًا في هبوط نسبي ولم تعد تدفع بالاقتصاد العالمي إلى الأمام. وكذلك العديد من الاقتصادات الكبرى بما فيها روسيا والبرازيل، تعيش هي أيضا في ركود اقتصادي. وحتى أسواق الأسهم، والتي امتطت موجة طباعة الأموال الجديدة، قد انقلبت. فالأسواق المالية متقلبة جداً، ومعدلات الديون ما زالت في مستويات قياسية، وهذا مصدر آخر لعدم الاستقرار.
إن الحقيقة في لعبة الركود والنمو الغربية هي في كونها مسألة ثقة. إن الاقتصادات القائمة على الديون يجب أن يكون عندها نمو حتى تتمكن من سدادها. وبدون نمو لا يمكن تسديد القروض، وهذا يؤدي إلى الانهيار: إما بالعجز الضخم عن سداد الديون ما يؤدي إلى انهيار الثقة، مما سيتسبب في هبوط اقتصادي حاد أو كساد، وإما سيكون هناك حاجة ماسة لاتخاذ إجراء أشد. وطباعة كميات إضافية من الأموال لا يمكن أن يحول دون انهيار العملات. وقد شهدنا مؤخرا قيام أهم دول مجموعة العشرين G20 بسن قوانين تمكنها من مصادرة ودائع البنوك في الأزمات البنكية القادمة.
نتيجةً لحقيقة أن تدخلات البنوك المركزية والحكومات بما فيها التيسير الكمي (QE) كانت ضخمة جدًا، ومع بقاء مستويات الديون مرتفعةً، فإن الركود الاقتصادي القادم سيكون أكبر مما سبقه. ونخشى أن الحكومات الغربية، في محاولة يائسة لمنع الانهيار، قد تعمد إلى إشعال حرائق حروب جديدة. هذا هو مصير البشرية على مذبح المرابين المضاربين الذين يفتقدون لأدنى قيم الإنسانية فيقامرون بحياة البشر في أيام السلم والحرب على السواء، إلا أن يتدارك المسلمون الأمر فيعملوا على إنقاذ أنفسهم من التبعية لدول الاستعمار، فيعتزوا بدينهم ويعودوا كما كانوا خير أمة أخرجت للناس، ويعملوا على إخراج الناس من ظلمات الرأسمالية المتوحشة إلى عدل الإسلام ورحمته.
بقلم: جمال هاروود
رأيك في الموضوع