إن من أعظم أنواع المكر والخداع أن تحول القضية عن أساسها إلى النقاش حول قشورها، وأن تصرف الأنظار عن مجرم كبير قتل مئات الآلاف إلى فاعل سوء صغير، فهذا ما تفعله أمريكا بالثورة السورية لإجهاضها، فكما صرفت الأنظار عن بشار أسد ونظامه المجرم إلى تنظيم الدولة، جعلت الحديث يدور حول من يمثل المعارضة كأنها قضية أساسية لصرف النظر عن لب المسألة وأبجدياتها وهي إسقاط النظام العلماني الباطل أولا ورفض التفاوض معه، وإيقاع أشد العقوبات على رئيسه المجرم وريث أبيه المجرم ومن معه والذين أذاقوا الشعب السوري الويلات على مدى عقود طويلة، وإقامة نظام الخلافة الراشدة الذي خرجت جماهير الشعب السوري الأبي من أجل إقامته، لأنه نابع من دينها الحنيف، ولتطبيق دستورها الصادر من كتابها العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
فروسيا وإيران تتظاهران برفض مشاركة "جيش الإسلام" و"حركة أحرار الشام" في المفاوضات بحجة أنهما تنظيمان إرهابيان بينما السعودية وفرنسا لا تعتبرانهما كذلك. وجيش الإسلام يعتبر اختيار ناطقه علوش كبيرا للمفاوضين مع النظام الإجرامي "نصرا مؤزرا"! فيصف "اختيار علوش خير رد على عنجهية النظام وحلفائه وإنه سيواجه النظام في جنيف كما في الغوطة" كما أوردت الأخبار عن مصادر الجيش يوم 20/1/2016. فصار النقاش من أتفه ما يكون ليدور حول من سيمثل المعارضة، وصار اختيار شخص من جيش الإسلام كبيرا للمفاوضين نصرا مؤزرا وردا على عنجهية النظام وحلفائه! ومفاوضته في جنيف خوض حرب كما في الغوطة! وهذا ما حصل مع منظمة التحرير الفلسطينية، حيث جعلت المفاوضات في جنيف وأوسلو وكامب ديفيد مع العدو مغتصب الأرض وتعيين عريقات كبيرا للمفاوضين نصرا مؤزرا ومواجهة له كما في فلسطين! حتى تنازلت ورضيت أن تكون خادمة للعدو تسهر على حمايته، وتتفاخر بإحباط العمليات الجهادية ضده، وتعتبر ذلك منجزات عظيمة للشعب الفلسطيني! وهذا ما سيحصل لأتباع عريقات سوريا! سيصبحون خداما للنظام العلماني القادم (لا قدّر الله أن يبقى) يحاربون كل من يحارب منجزاتهم العظيمة!
اختزلت أمريكا المسألة في الخلاف على منسيمثل المعارضة وفي الصراع على التمثيل، وأمريكا تكاد تطير من الفرح لأنها استطاعت أن تحقق ذلك. وسابقا كان لسان حالها وكأنها تتوسل حتى تجلب تنظيمات إسلامية مسلحة للمفاوضات، وقد استقال سفيرها فورد عندما فشل بجلبها إلى مؤتمر جنيف2. يبدو أن أمريكا غير مهتمة كثيرا بمن سيشترك من المعارضة، لأن أكبر نجاح لها أن تجد ممن يدّعون أنهم إسلاميون يمثلون الثوار ليدخلوا في مفاوضات مع قاتل أهاليهم، فكانت حريصة على أن تشرك هذه الحركات فيها، فأكبر نصر لها أن تحافظ على النظام العلماني مرتبطا بها وتجعل إسلاميين يقبلون به، ومن سيشترك هم أدوات لا قيمة لهم في نظرها، وعندما تستقر الأمور لها (لا سمح الله) تبدأ بالتنظيف، فالمهم لديها تنفيذ حلها السياسي الذي لم تتمكن من تنفيذه حتى الآن، فتكثف جهودها لتحقيقه. وبعد لقاء وزير خارجيتها كيري نظيره الروسي يوم 20/1/2016 صرح المتحدث باسم خارجيتها كيربي بأن "الوزيرين ناقشا أهمية الحفاظ على التقدم نحو حل دبلوماسي للأزمة". أي أن ما يهم أمريكا هو الحفاظ على ما أنجزته بجلب تنظيمات إسلامية مسلحة إلى مفاوضة النظام التابع لها.
فأمريكا تريد التشدد الروسي والإيراني تجاه تنظيمي جيش الإسلام وأحرار الشام حتى يتراميا على الاشتراك في المفاوضات فتصبح قضيتهما الاشتراك فيها، وليقوما بتقديم التنازلات عن كل مطلب إسلامي لتصبح تنظيمات وطنية اسمها إسلامية سائرة معها، لا تختلف عن غيرها، لكن لها وجهان. وأمريكا حريصة على إشراكهما ولكنها لا تبدي ذلك، فجعلت العملاء في السعودية وتركيا يقومون بخداعهما للاشتراك في المفاوضات، باعتبارهما قوى إسلامية فاعلة على الأرض حتى يقال أن إسلاميين قبلوا بالحل الأمريكي، أي اشتركوا في الخيانة. وعندما تقرر أمريكا من سيشترك فإن روسيا وإيران لا تقفان حجر عثرة فهما يعملان بالتنسيق معها، ويدل على ذلك تصريح وزير خارجية إيران ظريف يوم 20/1/2016 "إن وفد المعارضة يجب ألا يضم ثلاث جماعات معترف بها دوليا بأنها إرهابية، تنظيم الدولة الإسلامية والقاعدة وجبهة النصرة". مما يعني أن معارضة إيران لمشاركة جيش الإسلام وأحرار الشام ليست جادة، وضمنيا لا تعتبرهما إرهابيين، ويمكن أن توافق عليهما.
وأمريكا تدرك أنه لن يتحقق في هذا المؤتمر كل ما تريد، وأن الطريق طويلة، ولو حققت اتفاقية على الورق فلا ترى أن تنفيذها على الواقع سهل. ويدل على ذلك قول المتحدث باسم خارجيتها تونر يوم 20/1/2016 "المواعيد النهائية مسألة مهمة، لكن إذا تأخرت ليوم أو يومين فهذه ليست نهاية العالم.. نعترف بأن هذه عملية صعبة لكن علينا مواصلة الضغوط ومواصلة المضي قدما". فأمريكا تدرك أن المسألة ليست بمشاركة فلان أو علان، ولا بتأخير المفاوضات ليوم أو أكثر عندما جرى الحديث عن مطالب للمعارضة قبل الذهاب إلى المفاوضات من وقف القصف والحصار وإطلاق سراح مسجونين، وذلك لحفظ بعض ماء وجهها ولم يبق فيه ماء ولا حياء. ورغم ذلك فأمريكا تضغط حتى تعقد المؤتمر، وعندما رأت أنه ربما لا يعقد في موعده المقرر 25/1/2016 قالت بإمكانية التأخير، فتلك ليست نهاية العالم! لأنها تدرك أن الموضوع معقد وشائك حتى تتمكن من صياغة النظام من جديد، وستواصل الضغوط حتى تأتي المعارضة خانعة مستسلمة. ويدل على ذلك قول المتحدث باسم جيش الإسلام محمد علوش يوم 22/1/2016: "إن المعارضة تتعرض للكثير من الضغوط لتقديم التنازلات" وأشاد "بالسعودية وتركيا وقطر" لمساعدتها في تجاوز هذه الضغوط، ولا ندري إن كان يدرك أن الدول الثلاث تلعب دورا مخادعا كأنها تساعد جيشه بأنها ستقف معه في وجه المعارضة الروسية والإيرانية وتخفيف الضغوط الأمريكية وتقدم له الدعم مقابل تلبية المطالب الأمريكية.
والمساعدات التي تقدمها السعودية وتركيا وقطر لبعض التنظيمات ليست لإسقاط النظام، وإنما لتقدم التنازلات وتقر بالنظام العلماني، وبعد ذلك تنتهي مهمتها، فإما أن تندمج في النظام أو يقضى عليها، كما فعلت أمريكا في أفغانستان، وهناك كانت السعودية والباكستان تلعبان الدور الرئيس لحساب أمريكا، وهنا السعودية وتركيا تلعبان دورا رئيسا بخداع المعارضة السورية لحساب أمريكا، وقد ذكر جميل صالح قائد فصيل بالجيش الحر في 20/1/2016 "الدعم المقدم في الوقت الحالي غير كاف، قليل جدا، إن المساعدات التي يقدمها الداعمون.. للمعارضة المسلحة ومنهم السعودية وتركيا ليست كافية للتصدي لهجمات روسية تدعمها إيران على الأرض"، فلم تقدم السعودية وتركيا أسلحة ثقيلة تطالب بها المعارضة لا سيما الصواريخ المضادة للطيران، وإلا لتمكن الثوار من إسقاط طائرات لروسيا والنظام، وهذا ما لا تريده أمريكا لأن النظام تابع لها وروسيا تنسق معها وإيران خادمة لها، والعدو بالنسبة لها هو الثورة ذاتها.
وأمريكا ليست ضامنة لحلولها السياسية أن تطبق، ولذلك هددت بالتدخل العسكري على لسان بايدن نائب رئيسها أثناء زيارته لتركيا يوم 23/1/2016 بأنها "مستعدة لحل عسكري في سوريا إذا لم يكن التوصل لتسوية سياسية ممكنا". لأن الشعب السوري يحس بما تحوكه أمريكا ضده، وسيرى كيف تهدر كل تضحياته بمؤامراتها، لتبقي على النظام الإجرامي قائما بكل مؤسساته، وتعمل على أن ينجو رأس النظام ومن معه من العقاب، وهي تعمل منذ مدة على إيجاد مخرج لهم تكريما لما صنعوه من أجلها بالتزامهم بالتبعية لها وضربهم للثائرين على نفوذها.
فأمريكا لا تكتفي بتدخلها بالطيران والمخابرات، وزجها روسيا وإيران وحزبها في لبنان، فهي تبحث عن أشكال أخرى للتدخل العسكري، وتستعمل تركيا والسعودية لخداع القوى السنية! لأن القضاء على ثورة أهل سوريا وإخضاعهم ليس هينا، وخاصة بعد كل هذه المآسي التي حلت بهم، والكثير قد فجع بعزيز ودمر بيته وفقد ماله واعتدي على عرضه وهجّر في أصقاع الأرض وأعماق البحار، بينما يفلت المجرمون من العقاب! بل يكرَّمون بحمايتهم إما في أوكارهم داخل سوريا وإما في خارجها في إيران أو في روسيا! وثورة الشام هي ثورة الأمة الهادرة من محيطها الهادي إلى محيطها الأطلسي تتجلى بأشكال مختلفة بغض النظر عن أعمال خاطئة يقوم بها البعض، فذلك دليل على حيويتها وأنها في حالة غليان حتى تقلب الطاولة على رؤوس المتآمرين، فتستلم سلطانها وتسلمه لقيادتها السياسية الواعية التي تعمل على إقامة خلافتها وإنهاضها وتحريرها منذ أكثر من ستة عقود.
رأيك في الموضوع