على الرغم من مرور أكثر من شهر ونصف على الانتخابات العامة في 7 حزيران، إلا أن الجدول السياسي التركي لا يزال يحافظ على حالة الشك التي تعتريه.
فبعد تكليف رئيس الجمهورية أردوغان رئيس الوزراء داود أوغلو بتشكيل الحكومة، دخل حزب العدالة والتنمية في محادثات مع الأحزاب الأخرى في البرلمان مثل حزب الشعب الجمهوري، وحزب الحركة القومية، وحزب الشعوب الديمقراطي. وجاءت هجمات سوروج في مدينة أورفة قبل بدء الجولة الثانية من المحادثات بعد العيد لتخلق جوا سياسياً جديداً.
فهجومات القنابل هذه حصلت أثناء البيان الصحفي لأعضاء اتحاد جمعية الشباب الاشتراكي بعنوان "إعادة إعمار كوباني"، وراح ضحيتها 32 قتيلاً وأكثر من مئة جريح. وفي تصريحات ما بعد الحادثة، أشارت أصابع الحكومة وحزب الشعوب الديمقراطي والإعلام على حد سواء بالاتهام نحو تنظيم الدولة. وقد انطلقت هذه الدعاية منذ الساعات الأولى للحادثة، وتم التأكيد عليها بظهور بطاقة هوية أحد الأشخاص الذي يُزعَم بأنه منسوب للتنظيم في مكان الحادثة. لكن على الرغم من عدم تبنيه تفجير سوروج؛ فإنه تبنى التفجير الذي حصل في كوباني في اليوم ذاته. وكذلك حصل في التفجير الذي حدث وسط جمهور تجمع حزب الشعوب الديمقراطي في ديار بكر قبل الانتخابات ببضعة أيام، حيث توجهت أصابع الاتهام إلى تنظيم الدولة، بينما أثبتت التحقيقات تورط حزب العمال الكردستاني باعتراف أحد أعضائه. إلا أنه تم التعتيم على هذا الخبر.
وساد الرأيَ العامَّ [بين الأكراد] اعتقادٌ بأن تنظيم الدولة يقوم بقتل الأكراد في العراق وسوريا، والآن في تركيا، وأن حزب العدالة والتنمية يساعد التنظيم، وكان من الممكن تفادي الانفجارات لكن الحكومة لم تتخذ التدابير اللازمة. وكأنهم يدفعون الشعب للقيام بحماية نفسه، مع أنه يجب محاسبة الحكومة على تقصيرها في تأمين الحماية للناس.
في أعقاب التفجيرسعت بعض الأحزاب مثل حزب العمال الكردستاني وحزب جبهة التحرير الشعبية الثورية [شيوعي] بأعمال شغب، ومضايقات للمدنيين راح ضحيتها 3 شرطيين وجندي واحد ومسلمان ملتحيان. كما كثف حزب العمال الكردستاني عملياته في قتل المدنيين والشرطة والجنود بعد التفجير، وساد جو من التوتر والخوف والقلق، وتحركت النعرات القومية.
خلال هذه الأحداث قام تنظيم الدولة في الساعة الرابعة عصر يوم الخميس 23 تموز بقتل جندي تركي وضابط في هجوم له على الحدود السورية، مما أدى إلى تغيير مسار العملية السياسية من جديد. ورد الجيش على هذا الهجوم بقصف 3 مواقع للتنظيم موجودة في سوريا بعد ساعات من الهجوم [بين الساعة الثالثة والرابعة من ليلة 24 تموز]. وفي صباح اليوم ذاته تمت عمليات متزامنة ضد التنظيم وحزب العمال الكردستاني وحزب جبهة التحرير الشعبية الثورية في مجمل أنحاء البلاد وتم اعتقال 600 شخص. وفي يوم السبت 25 تموز ضربت الطائرات معسكرات التنظيم، وحزب العمال الكردستاني. وصرح كلٌّ من رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء بأن هذه العمليات ستتواصل، وأن على الجميع أن يثق بالدولة. من جانب آخر تعمقت محادثات أردوغان - أوباما في إطار دعم الائتلاف الذي تقوده أمريكا بحجة تنظيم الدولة، ومحادثات الشؤون الخارجية، وتوصلت المحادثات إلى إبرام اتفاقيات جديدة.
ما أريد قوله هنا هو ما يلي:
- إن هجوم سوروج في 20 تموز جاء متزامناً مع محادثات رئيس الوزراء داود أوغلو مع الائتلاف الدولي، ومواصلة بحث خيار الانتخابات المبكرة.
- لم يتبن تنظيم الدولة هجوم سوروج، لكنه تبنى في اليوم ذاته هجوم كوباني. ولا ننسى هنا اتهامه بهجوم ديار بكر، والتعتيم على اعتراف أحد اعضاء حزب العمال الكردستاني بمسؤولية الحزب عن الهجوم.
- ولا يخفى هنا أن هذه الهجمات تكشف عن أن النفوذ الإنجليزي في تركيا على الرغم من إضعافه كثيراً بعمليات الأرغَنَكون فإنه لا يزال حياً. وأن الغرض من هذه الهجمات هو إجبار حزب العدالة والتنمية على حكومة ائتلافية تنهي سلطة حزب العدالة والتنمية التي استمرت 13 سنة.
- ولا يخفى أيضاً التهاب المشاعر القومية من جديد بعد هجوم سوروج والحوادث المتسارعة بعده، وارتفاع شعبية الحزبين القوميين؛ حزب الشعوب الديمقراطي وحزب الحركة القومية، مما يشكل نمواً في العوائق التي تحول دون تفرد حزب العدالة والتنمية بالسلطة، ويحمل بالتالي حزب العدالة والتنمية على الحكومة الائتلافية، والابتعاد عن قرار الانتخابات المبكرة. وستحاول الأحزاب السياسية الأخرى استغلال الوضع، ورفع سقف مطالبها وحصتها في الحكومة الائتلافية.
- وسيجري الرهان على انخفاض أصوات حزب العدالة في هذه الأجواء، وتعرض النظام الرئاسي لصعوبات أكبر في المرحلة القادمة.
- إن العمليات التي قام بها حزب العدالة والتنمية في 24-25 تموز في مجمل البلد ضد تنظيم الدولة وحزب العمال الكردستاني وحزب جبهة التحرير الشعبية الثورية، كذلك العمليات التي تخطت الحدود ضد التنظيم وحزب العمال الكردستاني؛ بعد محادثاته مع أمريكا، يمكن اعتبارها حملة متعددة الأهداف في وجه هذه الخطط.
- والعمليات التي قامت بها حكومة حزب العدالة داخل البلد أو التي تخطت الحدود بحجة تنظيم الدولة، أدت إلى تعزيز التحالف بين تركيا وأمريكا، وتوقيع اتفاقيات جديدة تتعلق بالمنطقة العازلة، والمنطقة الآمنة، وفتح القواعد، وزيادة الدعم اللوجستي.
- ويمكن القول: إن هذه العمليات ضد تنظيم الدولة وحزب العمال الكردستاني في الداخل والخارج قضت على التوتر والخوف، وحسنت صورة حزب العدالة والتنمية. ومثل هذا الوضع يؤدي بلا شك إلى تعزيز قوة حزب العدالة والتنمية سواء شكل الحكومة الائتلافية أم توجه نحو الانتخابات المبكرة.
إن كل هذه الأحداثكشفت مرة أخرى حجم الغفلة التي يسدر فيها قادة الدولة والسياسيون الآخرون، وبعدهم عن البصيرة التي يتطلبها رجل الدولة. فبدلاً من تحليل الأحداث، وكشف خطط المستعمرين؛ انطلقت التصريحات الرسمية بلا استثناء من نظرة بوليسية تفتح الطريق للصراع العرقي من جديد. وعملت وسائط الإعلام الإذاعية والمكتوبة والمرئية في تركيا بشكل واضح على وضع علامات على أبواب المسلمين لإشعال فتيل الصراع وتوجيهها لمزيد من إراقة الدماء بين المسلمين. وأثبتت الحكومة مرة أخرى أن حبلها السري مع أمريكا لم ينقطع، وأنها ترتبط بها بشدة، من خلال تحويلها مذبحة سوروج والأحداث التي تسارعت بعدها إلى فرصة لإشغال الرأي العام وعقد اتفاقيات جديدة مع أمريكا، والتحرك في المسألة السورية كما تريد أمريكا.
بقلم: محمود كار
رأيك في الموضوع