إنه مما يجب أن يلتفت إليه في متابعة الأحداث هو إدراك الحقائق والتي تشكل محورا للفهم، فأولاها هنا أن الدول الأوروبية هي دول استعمارية لأنها تبنت المبدأ الرأسمالي الذي يفصل الدين عن الحياة ويجعل النفعية أساسا له ومقياسا لأعماله، والاستعمار طريقة لنشره، بل أصبح هدفه. فهذه حقيقة يجب أن تفهم من خلالها الدول الأوروبية وأمريكا، ولا يجوز أن يخدع إنسان نفسه بالقول عكس ذلك، وعندئذ يقع في فخاخها ويقع صريع غفلة، كما فعل البعض من أشباه العلماء وغيرهم بالدفاع عن تدخل أمريكا في العراق وتدخل فرنسا وغيرها في ليبيا.
والحقيقة الثانية هي أن هذه الدول الرأسمالية لا تقبل أن يقف في وجه مبدئها مبدأ آخر، فحاربت المبدأ الشيوعي حتى سقط، وحاربت المبدأ الإسلامي حتى تمكنت من القضاء على دولته وهي تحارب عودته وإقامة دولته المتمثلة بالخلافة الراشدة على منهاج النبوة، فلا تقبل سيادة الإسلام كمبدأ وله دولة، وربما تقبل بالمسلمين كأفراد وجماعات يعيشون في ظل الرأسمالية ويلتزمون بقوانينها.
والحقيقة الثالثة هي أن على رأس تلك الدول الأوروبية بريطانيا وفرنسا وألمانيا تحمل كل واحدة منها صفة الدولة الكبرى وتتنافس بينها على السيادة والاستعمار منذ القدم، وقد دمر بعضُها بعضا في حربين عالميتين من أجل ذلك، فكيف إذا تعلق الأمر بالمسلمين فلا قيمة لهم في حساباتها إلا بقدر الاستفادة منهم لتحقيق أهدافها. وجاءت أمريكا لتنافسها وتنحيها جانبا وتعمل على فرض سيادتها على العالم والاستحواذ على أكثر ثرواته بكل الطرق.
ولذلك شهدت سوريا صراعا استعماريا شرسا، فبعدما خرجت فرنسا منها، استطاعت بريطانيا أن تدخلها عن طريق العملاء، وجاءت أمريكا لتنافسها، فشهدت فترة الخمسينات والستينات من القرن الماضي انقلابات عديدة في سوريا بسبب الصراع بينهما، إلى أن تمكنت أمريكا منذ السبعينات من بسط نفوذها بمجيء حافظ أسد وابنه، ولكن الأمور لم تهدأ، فحاول أهل سوريا أن يتخلصوا من هذا النفوذ، فجرت محاولات عديدة إلى أن تفجّرت الثورة عام 2011.
فهذه الثورة لم تهدد النفوذ الأمريكي وحده بل النفوذ الغربي كله، ولهذا فإن أمريكا عندما لم تستطع أن تخمد الثورة بواسطة عميلها بشار أسد استعانت بإيران وحزبها في لبنان وبروسيا وتدخلت هي مباشرة وأدخلت معها دول المنطقة، واضطرت إلى أن تسمح لأوروبا بالتدخل بجانبها وهي تخشى تدخلها وخاصة بريطانيا. لأن للأخيرة باعاً هناك ومعرفة وقدرة وتجربة فيمكنها أن تلعب دورا إنجليزيا خبيثا على عادتها.
فسمحت أمريكا لدول أوروبا بالتدخل حتى توقف تشويشها عليها وتضعها تحت رقابتها وقيادتها في الحرب خوفا من أن تعمل هذه الدول خارج إرادتها، وخاصة أن هذه الدول تضغط، وقد رأينا فرنسا عندما سمح لها بالتدخل تخلت عن تصريحاتها السابقة وبدأت تقبل ببقاء الأسد دون ربطه بموضوع تنظيم الدولة، وكذلك بريطانيا.
وقد صادق البرلمان الألماني بغالبية كبيرة يوم 4/12/2015 على قرار الحكومة بإرسال 1200 جندي و6 طائرات استطلاع إلى سوريا وفرقاطة بحرية لحماية حاملة الطائرات الفرنسية ولتزويدها بالوقود بذريعة محاربة تنظيم الدولة. وهذا يدل على توجه عام لدى الألمان نحو التدخل العسكري في الخارج. وهذا يؤكد أن ألمانيا تتجه نحو الصيرورة دولةً كبرى ومن ثم ممارسة الاستعمار مستذكرة ماضيها القديم. وهي تنسق مع فرنسا لتكتسب تجربة في هذا المجال، وقد اتخذت القرار عقب زيارة ميركل إلى فرنسا يوم 26/11/2015. حيث بدأت تعمل مع فرنسا في محور خاص بهما منذ عام 2003 عندما عارضتا الغزو الأمريكي للعراق. وكانت فرنسا قد اتخذت قرارها بالتدخل في سوريا في أيلول الماضي حيث بدأت أولى ضرباتها يوم 24/9/2015.
وبدأت بريطانيا بشن غاراتها في سوريا بعد ساعات من تصويت برلمانها على ذلك يوم 2/12/2015، وتحركت من قواعدها في قبرص.
إن بريطانيا وفرنسا تسعيان لأن يكون لهما دور في الشأن السوري لتبقيا لاعبين دوليين ولا تعزلا عن مداولة الشؤون الدولية حتى لا تسقطا من الموقف الدولي، وقد لحقت بهما ألمانيا التي تتوق إلى ذلك بعدما حققت بعض النجاحات في السياسة الأوروبية وفي أوكرانيا وباشتراكها في مفاوضات الملف النووي الإيراني، وقد استعملت ورقة لاجئي سوريا للاشتراك بمؤتمرات فينّا الأخيرة.
إن هدف أمريكا إبقاء النظام السوري قائما وتؤجل البحث في مصير عميلها بشار، وتصرف الأنظار عن جرائمه إلى تنظيم الدولة، وتدعو الجميع لمقاتلة هذا التنظيم فقط، وقد وصلت بها الوقاحة إلى أن تدعو أهل سوريا للتحالف مع النظام ضد التنظيم وليتناسوا جرائمه التي تفوق ما فعله تنظيم الدولة بمليون مرة. فقال وزير خارجيتها كيري يوم 4/12/2015 "قد يكون بالإمكان قيام تعاون بين النظام السوري وقوات المعارضة في محاربة تنظيم الدولة دون رحيل بشار أسد أولا". فهو يفترض في أهل سوريا الغباء وهم من أوعى الشعوب، أو القدرة على خداعهم حيث لم تتمكن أمريكا من خداعهم على مدى قرابة خمس سنوات. وهذا يدل على أن أمريكا في أزمة فلم تستطع أن تطبق حلها السياسي فتلجأ إلى كافة السبل وتشرك دول العالم كله معها وتضغط على أهل سوريا بكل ما أوتيت من قوة. وهي تسمح لأوروبا بالتدخل ضد تنظيم الدولة وتصرف النظر عن موضوع بشار لتري أهل سوريا أن المسألة هي هذا التنظيم وأن العالم كله معها ضده، فما عليهم إلا السير في هذا الاتجاه. ولا يعني أنها تريد القضاء على التنظيم فورا، وإنما تعد لذلك عندما يتقبل أهل سوريا هذا الأمر. فإذا ساروا في هذا الاتجاه وقبلوا ببقاء بشار في مرحلة انتقالية ومن ثم التفاوض مع نظامه بوجوده وقبلوا بتطبيق الحل السياسي فعندئذ سوف تبدأ بعملية القضاء على التنظيم من سوريا.
إن التنظيم قد أساء لنفسه وأساء للإسلام والمسلمين بسبب عدم وعيه الفكري والسياسي مما سهل على أمريكا استغلال جرائمه للتدخل ضد الثورة لإجهاضها، ودعوة كل دول العالم ضده، واتخاذه ذريعة للتدخل بجانبها حتى ينقذوها وينقذوا نفوذها الذي آل إلى الزوال. فلو كان عنده الوعي والفهم لما عادى كل التنظيمات الإسلامية واعتبر نفسه هو الحق وعلى الجميع أن يخضعوا له، لأنه أعلن نفسه دولة إسلامية ومن ثم خلافة إسلامية لغواً على شكل مخالف للشرع، بل لقام وتحالف مع هذه التنظيمات كلها حتى يصل معها إلى دمشق ويسقط النظام ومن ثم يتفق معهم على إعلان الخلافة وانتخاب خليفة حسب الشروط الشرعية.
إن عجز أمريكا على أن تحافظ على نفوذها في سوريا دون الاستعانة بكل هذه الأطراف لدليل دامغ على فشلها وأنها إلى زوال. وإن أبناء الأمة الأشاوس وقد ثاروا وضحوا وتوجهوا نحو العمل لإعلاء كلمة الله ينصرون دينه فإنه سينصرهم ما داموا ثابتين على أمره، ويحقق لهم وعده بالاستخلاف والتمكين والأمن والعيش الهنيء، ولكن بعد ابتلاء عظيم من قبل فرعون العصر أمريكا وعملائها وحلفائها وشركائها يذبحون أبناء المسلمين ولا يستحيون نساءهم ولا يستثنون أطفالهم، وإن ربك لبالمرصاد.
رأيك في الموضوع