يقول سيد قطب رحمه الله في رسالته لأخته قبل إعدامه، في مثال محسوس لتخليد أصحاب القضايا حتى لو فارقت أجسادهم هذه الحياة: "عندما نعيش لذواتنا فحسب، تبدو لنا الحياة قصيرة ضئيلة تبدأ من حيث بدأنا نعي، وتنتهي بانتهاء عمرنا المحدود! أما عندما نعيش لغيرنا أي عندما نعيش لفكرة (أو لقضية)، فإن الحياة تبدو طويلة عميقة تبدأ من حيث بدأت الإنسانية وتمتد بعد مفارقتنا لوجه هذه الأرض،...".
فالعيش لقضية هو الفارق الذي يرتقي بالإنسان ليميزه عن ملايين البشر، فأبواب التاريخ لا يقرعها إلا الجادون المترفعون عن إيجاد ذواتهم المضحون لإيجاد قضاياهم، فلو أدرك الإنسان هذا لاحتسب أيام عمره من يوم حمله لقضية، وهذا هو الفهم الذي تجسد في شخصية عمر بن الخطاب رضي الله عنه فبدأ بتعداد سني عمره منذ دخل الإسلام أي منذ أن حمل قضية، فكان له بالإسلام عمرٌ آخر. والقضية كما يحملها الأفراد أيضاً يحملها المجموع فترتقي بهم ارتقاءً جماعياً، فيغيرون حركة التاريخ إن سادت قضيتهم؛ فانظر إلى العرب فإنهم كانوا بمجموعهم على هوامش التاريخ لا وزن لهم ولا اعتبار حتى حُمِّلوا قضية الإسلام رسالةً واجبةَ التبليغ فنقلتهم من حياة البداوة البسيطة إلى حملةٍ لدعوة الحق ولواء الفتح مبشرين بميلاد جديد لوجه الأرض. فنجد رستم قائد جيش الفرس مخاطباً المغيرة واصفاً العرب: "...أما أنتم (أي العرب) فأهل قشفٍ ومعيشة سوء وجهدٍ وشقاء، لا نراكم شيئا، ولا نَعُدُّكم، وكانت إذا قحطت أرضكم أتيتمونا فحملناكم وقراً من تمر أو قمح، فرضيتم ورجعتم...، وإني لأرى أنه ما جاء بكم إلا الجهد، فعودوا أدراجكم ونحن نوقِرُ لكم ركائبكم قمحاً وتمراً، وأنا آمر لأميركم بكسوة وبغل وألف درهم، وكل رجل منكم له وقر من تمر وقمح وثوبان، وتعودون أرضكم، فإني لا أشتهي قتلكم، فارجعوا عافاكم الله...".
نظرة رستم هذه للعرب هي نظرة طبيعية فهم ليسوا أهل حضارة ولا أصحاب قضية، تحركهم جوعات بطونهم فخاطبهم على قدرهم الذي عهدهم عليه، ولم يعلم أنهم ما عادت تنفع معهم سلة الإغاثة التي وعدهم بها لأنهم باتوا أصحاب قضية ورسالة.
وهنا يتجلى عندنا سؤال هل كل قضية يحملها الإنسان ترتقي به هذا الارتقاء أم أن هناك قضايا محددة؟
فإذا نظرنا إلى ما يشغل المرء من قضايا نجدها نوعين؛ قضايا مصيرية وقضايا ثانوية:
أما القضايا الثانوية فهي كل ما يشغل الإنسان في الحالة الطبيعية ويقوم بها كل البشر بلا استثناء من بناء لأسرته واستقلال لذاته وتربية أبنائه وتأمين قوت يومه وإيجاد مورده الخاص... وغيرها من القضايا الثانوية الكثيرة المتكررة عند كل البشر، فليست هي موضع البحث؛ لأنها وإن كانت تشغل حيزاً كبيراً من حياة الإنسان ولكنها لا ترتقي به ارتقاء العظماء، ونحن أطلقنا عليها اسم قضايا مجازاً فحقيقتها ليست قضايا بل هي روتين المعاش.
أما النوع الثاني من القضايا فهي القضايا المصيرية؛ فهذا النوع من القضايا هو الذي غاب فهمه عن أفراد الأمة، فجعلوا من القضايا الثانوية قضايا مصيرية فأفنوا حياتهم يركضون خلف الثانويات فتجاهلهم التاريخ وتجاهلوه، فلا هم نهضوا في معاشهم ولا بقي لهم ذكرٌ أو أثرٌ بعد مماتهم!
إذاً ما هي القضية المصيرية؟
القضية المصيرية هي القضية التي لا تخصك بذاتك بل هي القضية التي تحمل رسالة فكرية ترتقي بك وبالمجتمع الذي ارتضيت أن تكون جزءاً منه من الدون إلى القمة، واستعدادك أن تبذل كل ما تملك بما فيها روحك في سبيل تحقيق هذا الهدف، أي بالمختصر هي القضية التي يجب أن يكون عندك فيها درجة من القناعة تدفعك لأن تتخذ بحقها إجراء الحياة أو الموت.
هذا هو المفهوم الذي يجب أن يترسخ في الذهن حتى نعلم في أي القضايا أفنينا عمرنا وهل نسير نحو التغيير أم أننا لا زلنا نقف عند قضايا الروتين ونحن نظن أننا نواكب سير الحضارات.
كما تجب الإشارة هنا أن ليس كل قضية مصيرية هي قضية صحيحة نقية، فنحن قلنا إنه إذا توفرت في القضية أسباب التغيير وحملها قوم من الناس عن قناعة وضحوا من أجلها فهي إذاً بحقهم قضية مصيرية ولكن لا يشترط فيها الصحة والنقاء، فالشيوعيون والرأسماليون كوّنوا من نظرياتهم ومبادئهم قضيةً مصيرية غيروا بها وجه العالم وبذلوا وضحوا من أجلها ولكنهم تركوا إرثاً من الشقاء والدماء، وهذا الواقع المرير الذي نعيشه اليوم مثالٌ شاهدٌ على فساد مبادئهم وخطأ قضيتهم.
فما هي القضية المصيرية التي يجب علينا نحن المسلمين أن نتبناها ونجعلها على رأس قضايانا؟
إن قضيتنا المصيرية نحن المسلمين لا نبحث عنها فيما أنتجه المفكرون والمثقفون من مبادئ وأفكارٍ ونظريات، بل نبحث عنها في مبدئنا وما ينبثق عن عقيدتنا من أحكام وما بني عليها من أفكار تحدد لنا غاية خلقنا ووجودنا على هذه الأرض، وهي العمل من أجل نيل رضوان الله بطاعته وعبادته، قال عز وجل: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾، فغاية الوجود هي نيل رضوان الله بالتزام شرعه وتجسيده في واقع الحياة.
وعبادة الله هي أن تتجلى أحكامه وأوامره في كل جوانب الحياة في السياسة والحكم وفي الاقتصاد والتعليم وفي المعاملات كافة، أي أن تتجسد في دستور الدولة وقوانينها وأجهزتها،كما تتجسد في الفرد، ولا يتأتى هذا إلا إذا وُجِدَت للمسلمين دولةٌ تجسد الإسلام عمليا في واقع الحياة فتطبقُ أحكامه داخليا وتحمله رسالة هدى ونور لتنقذ البشرية مما هي فيه، وبذلك تتحقق غاية وجودنا في هذه المعمورة.
وإذا علمنا أن إقامة الدولة فرض فرضه الله علينا وهي أيضا من باب "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"، ندرك أن قضيتنا المصيرية اليوم إنما هي العمل لإقامة دولة ترعى شؤون الناس بأحكام الإسلام وتهيئ لهم الواقع الحقيقي للعبادة، فهذه هي القضية المصيرية التي ارتضاها لنا ربنا والتي يجب على الأمة الإسلامية بالمجموع تبنيها وجعلها تاج القضايا، فنموت في سبيلها ولا نتهاون مع من يحاول منعنا من تحقيقها، حتى لو كلفنا ذلك أرواحنا، فبها وحدها تتحقق غاية معاشنا، فلا عبرة لحياة بلا غاية ولا قضية، فَكُنْ صاحِبَ قضية.
رأيك في الموضوع