لقد كان المشركون في مكة يدركون خطورة الهجرة لأنها تعني كسر الحصار والطوق عن دعوة الإسلام التي كانت حركاتها مرصودة من صناديد الكفر والشرك في مكة، وقد كان في مخيلة طغاة مكة أنهم قادرون على القضاء على الدعوة الوليدة، أو على الأقل أن يجعلوها محصورة معزولة عن الواقع، أو في أسوأ الأحوال يجعلون حركتها في نطاق ما لا يتعارض مع سياسة كيانهم الجاهلي. وما كان الإسلام ليقبل بذلك وهو قد جاء لهدم الأنظمة الكافرة من أساسها، ليشيد صرحه العظيم ويقيم دولته الكبرى. ولأن قريشا كانت تدرك ذلك، فما كانت لتقبل بخروج الرسول ﷺ منها، فكان مكرهم بالرسول ﷺ ليقتلوه أو يثبتوه أو يخرجوه ليمنعوه من الوصول إلى المدينة، قال تعالى: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾.
ولما تجمد مجتمع مكة أمام دعوة الإسلام، بدأ الرسول ﷺ يطلب النصرة من القبائل، وذكر أصحاب السِّيَر أسماء خمس عشرة قبيلة كلها رفض دعوته، حتى أعثره الله في آخر الأمر على النفر الستة من يثرب، فأيده الله بهم. وأخيراً تحقق الهدف، ووُجدت الأرض التي تستعد لإقامة دولة الإسلام. وعبر بيعتي العقبة الأولى والثانية، وسفارة مصعب بن عمير، تمت تهيئة الأجواء لدولة الإسلام في المدينة، وفي هذه اللحظة انتهت المرحلة المكية وبدأت المرحلة المدنية.
نعم لقد كانت هجرة المصطفى ﷺ من مكة إلى المدينة إيذانا بتأسيس أعظم دولة عرفتها البشرية، وبها أصبح الإسلام ممثَّلا في دولة تطبقه في الداخل وتحمله للخارج رسالة رحمة وهدى للعالم. فبالهجرة أصبح للإسلام دولة تسوس الناس وفق أحكام الله التي بدأت تتنزل لتنظم العلاقات بين المؤمنين، وبينهم وبين غيرهم، كما تنظم العلاقات بين الدولة الإسلامية الناشئة وبين غيرها من الدول والشعوب والأمم.
ولعل النص الأول في وثيقة المدينة يوضح بما لا يدع مجالا للشك بأنها تؤسس لدولة قوامها المهاجرون والأنصار ومن تبعهم فلحق بهم، إذ هم وحدهم أمة واحدة من دون الناس، فالبند الأول يقول: (هَذَا كِتَابٌ مِنْ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ ﷺ، بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْ قُرَيْشٍ وَيَثْرِبَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ، فَلَحِقَ بِهِمْ، وَجَاهَدَ مَعَهُمْ، إنَّهُمْ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ دُونِ النَّاسِ). ثم يبين أحد أهم نصوص الوثيقة أن المرجع الوحيد بل والسيادة المطلقة في هذه الدولة هي لشرع الله سبحانه وتعالى، إذ تنص على: (وَإِنَّهُ مَا كَانَ بَيْنَ أَهْلِ هَذِهِ الصَّحِيفَةِ مِنْ حَدَثٍ أَوْ اشْتِجَارٍ يُخَافُ فَسَادُهُ، فَإِنَّ مَرَدَّهُ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِلَى مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى أَتْقَى مَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ وَأَبَرِّهِ). لقد شكلت هذه الوثيقة الأساس المتين الذي تقوم عليه الدولة الناشئة، فكانت بحق أعظم دستور لأعظم دولة.
ولقد كان الإسلام روحا جديدة تسري في مجتمع المدينة فأحيته بالقرآن، وهو كلٌّ متكامل لا يؤخذ بعضه دون بعض، فهو ينظم شئون الأسرة والمجتمع والدولة في السياسة الداخلية والخارجية والاجتماع والاقتصاد والتعليم...، ولذا كان لا بد له من دولة يبسط سلطانه من خلالها، ويظهر بها عظمة أحكامه وعلو تشريعاته وسمو قيمه. ومن هنا كانت الدولة الإسلامية هي الطريقة العملية لتطبيق الإسلام وكانت هي النموذج والمثال الذي يلفت الأنظار وتشرئب له الأعناق وتتلهف له القلوب. ولذا كان الإقبال على الدخول في الإسلام بعد قيام الدولة أكبر بكثير منه قبلها، وقد عبر عنه القرآن بأنه كان أفواجا. قال تعالى: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً﴾ [النصر: 1-3]، وبرغم أن الفتح المذكور في الآية الكريمة هو فتح مكة، وقد كان سببا في إقبال العرب على الإسلام بعد أن زال سلطان مكة باعتبارها كانت هي من يقف في وجه دعوة الإسلام، إلا أن الوفود كانت تأتي زرافات زرافات للمدينة بعد صلح الحديبية وتعلن دخولها في الإسلام وتحت سلطان الدولة الفتية في المدينة.
إذن: بالهجرة أصبح للإسلام كيان ومنطقة نفوذ يمارس عليها السيادة الكاملة، ويعرض فيها مبدأه دون تدخل بالحذف أو الزيادة، أو التغيير والتبديل من أعدائه، وبها تحقق للرسول ﷺ ما يريد، وتم فتح الآفاق والقلوب وانتقل الإسلام من طور الدعوة إلى طور الدولة؛ لأن الإسلام جاء يمارس تنفيذ مهامه في إطار دولة يرأسها رسول الله تنشر الإسلام وتجاهد في سبيله. وبها تحرر الإسلام من البعيد المتجهم أو العدو المتملك المسيطر، حتى لا يتكرر المشهد الذي حكاه الدعاء الشريف الذي جأر به الرسول في رحلة الطائف: «إِلَى مَنْ تَكِلُنِي، إِلَى بِعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِي، أَمْ إِلَى عَدُوٍّ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي».
فالهجرة كانت تتويجا لحركة النبي ﷺ الفعالة طوال المرحلة المكية، وهي التي فرقت بين الحق والباطل، وهي درس ينبغي أن يستوعبه المسلمون، لا سيما حملة الدعوة والقائمون على النهضة في بلاد المسلمين، ولم يعد من المقبول الانشغال بمداهنة ومهادنة الأنظمة الطاغوتية القائمة في بلادنا، فهي من يقف عقبة في طريق تمكين الإسلام في دولة، وكما تصدت قريش وأئمة الكفر فيها لدعوة الرسول ﷺ فإن تلك الأنظمة تتصدى لحملة الدعوة بل وتنكل بهم وتحاربهم صباح مساء، والأمة والحمد لله تدرك واقع هؤلاء الحكام وأنهم مجرد أدوات في يد أعداء الأمة يعملون على منع الأمة من النهوض واستئناف حياتها الإسلامية، ومن هنا لم يبق أمام الحركات الإسلامية العاملة في الأمة إلا كنس هذا النظام عن طريق أهل نصرة وقوة ينصرونها ويضعون الإسلام موضع التطبيق.
ولتكن ذكرى هجرة النبي ﷺ باعثا للأمل في نفوسنا من جديد نحو خلافة ثانية على منهاج النبوة؛ فكما سار النبي نسير دون أن نحيد قيد شعرة، وكما صبر هو وصحابته نصبر، وكما ضحى هو وصحابته الكرام نضحي، ونبذل الغالي والنفيس في سبيل قضية أدركنا كونها مصيرية وهي قضية تحكيم شرع الله في دولة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة.
﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾
رأيك في الموضوع