أما وقد نزلت بالأرض كلها طوام الأحكام الوضعية، ودَهَتْهَا دَاهِيِةُ الجَاهِلِيِّةِ، وأُقْصِيَتْ عنها جُلُّ الأحكامِ الشَّرْعِيَّةِ، وهُدِمَتْ دولةُ الحَقِّ، واقْتَحَمَتْ دَوْلَةُ البَاطِلِ العَقَبَةَ، وغَشِيَت الأَرْضَ سنينٌ ذَاتُ مَسْغَبَةٍ، فَرَتَعَ الظَّالِـمُونَ، وأفْسَدَ الـمُفْسِدونَ، وَأَرْجَفَ الـمُرْجِفُونَ، وارْتَقَى الظُّلمُ مُرْتَقًى صعباً، وغُيِّبَ الحقُّ، وغِيْضَ الخَيْرُ، وعَمَّ الشَّرُّ، وَسَالَتِ الدِّمَاءُ أًنْهَارَاً، وَانْتُهِكَتِ الأَعْرَاضُ جهَاراً نَهَاراً، وَأَقْلَعَتِ السَّمَاءُ، وانْتَفَشَ الباطلُ وانْتَفَخَتْ أوْدَاجُهُ، واسْتَنْسَرَ البُغَاثُ بأرضِنا، واشْرَأَبَّ النفاقُ، وفسدت الأخلاقُ، وتَكَالَبَتْ عَليْنَا الأُمَمُ تَكَالُبَ الأَكَلَةِ إِلى قَصْعَتِها، مِنْ كُلِّ حَدَبٍ وَصَوْبٍ، فَأَعْمَلُوُا سُيُوْفَهُمْ، وَرَاجِمَاتِ حِقْدِهِمْ، وَحِمَمَ نِيْرَانِهِمْ فِيْ جَسَدِ الأُمَّةِ، وَنَصَّبُوا عَلَى الأُمَّةِ شِرَارَهَا حُكَّاماً، وَفُجَّارَها وزراءَ، وَأَكَابِرَ مُجْرِمِيْهَا شُرَطَةً وجُبَاةً وَقُضَاةً وَمُخَابَرَاتٍ، فَكَتَمُوا الأَنْفَاسَ، وَنَهَبُوا الخَيْرَاتِ، وَأَضْحَتْ خَيْرُ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ غُثَاءً كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وأُحِيْطَ بِها، كَالْـمُنْبَتِّ لا أرْضَاً قَطَعَ ولا ظَهْرَاً أَبْقَى!
في هذه الظروف الحالكات، ينظر المرء إلى الضوء المشرق في آخر النفق ليرى بأم العين أن ليس ثمة إلا الخلافة فهي الدرع الواقية للأمة الإسلامية، والسيف المهند الذي يردع عدوها، وقضية المسلمين المصيرية، فالرسول الكريم eوصف الخليفة بوصف محكم مبينا أهمية وجوده في حياة الأمة بقوله: «إِنَّمَا الْإِمَامُ جُنَّةٌ (أي دِرْعٌ وَاقِيَةٌ للمسلمين) يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ وَيُتَّقَى بِهِ»، فهو السيف والدرع، فكيف وقد كسرت هذه الدرع، وأغمد ذلك السيف، ألا يكون العمل على إعادتهما وِجاءً ووِقاءً لصدور الأمة، وإصلاتا في وجه أعدائها هو من أوجب الواجبات؟
ثم يُرجع المرء النظر، فيرى في الكتاب الحكيم آيات بينات تبين أن الخلافة تمثل تطبيق الإسلام، وإقامة نظام العدل والقسط في الأرض، ومقصدا رئيسا من أجله أنزل الكتاب، وأرسل الرسول e، قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾[الحديد: 25]، وقوله ﴿لَقَدْ﴾: اللام واقعة في جواب قسم محذوف، واللام في قوله ﴿لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ هي لام التعليل، فأحد أهم المقاصد الكلية من إنزال البينات مع الرسل هي أن يقوم الناس بالقسط وفق الأحكام التي نزلت مع هؤلاء الرسل والأنبياء، مصداق ذلك قوله تعالى: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ﴾ [البقرة: 213]، واللام في قوله تعالى ﴿لِيَحْكُمَ﴾ هي لام التعليل أيضا، وهكذا كانت مهمة الرسل الأهم الدعوة لتوحيد الله ولإقامة ميزان الحق، بتطبيق البينات التي نزلت بها كتبهم، وتحقيق القسط والعدل بجعل شرائعهم الحكمَ فيما يختلف الناس فيه في شئون معاشهم وآخرتهم، وعلى هذا نافح الرسل أقوامهم، ومضت سنة الله تعالى في صراع الحق مع الباطل، يقذف اللهُ تعالى بالحقِّ على الباطلَ فيدمغه فإذا هو زاهق، وقذفه يكون بعد رحلة عناء ومشقة بالغة مضت بها رسل أولو عزم، ورسل أوذوا وعُذبوا، ورسل كُذِّبوا وقُوتلوا وقُتلوا، واستمر الصراع بين الحق الذي نزلت به الشرائع وناضلت عنه الرسل، وبين الباطل الذي يحاول أن يشرئب ويصول في الأرض فسادا، حتى أذن الله تعالى أن يتوج انتصار الحق على الباطل بقيام الحق في مناطق محدودة على يد أنبياء كرام كأنبياء بني إسرائيل ساسوا أقوامهم كلما هلك نبي خلفه نبي، ثم شاء الله أن يمن بإقامة نظام الإسلام في دولة الإسلام الأولى التي أقامها المصطفى eفي المدينة، فطبقت الأحكام التي نزلت بها الشريعة الغراء، وحققت مقصد إنزال الكتاب ليكون حكما في كل شأن، وحققت مقصد قيام الناس بالقسط، واستمرت تلك الدولة في النشوء والارتقاء والتوسع والانتشار، خلافة تملأ الأرض عدلا وقسطا، حتى بلغت أكثر من نصف الكرة الأرضية، فكانت دولة الخلافة الأولى بحق التتويج العملي لانتصار الحق على الباطل، والتتويج الحق لصراع الرسل مع أقوامهم، فأثمرت تضحيات الرسل ومن آمن معهم بأن قام ميزان الحق والعدل في الأرض، وطبقت الشريعة في الآفاق، ثم دالت دولة الباطل، وضعف تمسك المسلمين بإسلامهم، وفهمهم لدقائق أحكامه، وضعفت دولتهم، فأذن الله بزوالها، ووعد بعودتها تمكينا للدين، واستخلافا للعباد المؤمنين، وأمنا وطمأنينة للمسلمين، بل وفوق ذلك بأن لا يبقى في الأرض بيت مدر ولا وبر إلا ويدخله الإسلام، وأن تُزوى الأرض مشارقها ومغاربها، فيبلغ حكم الإسلام ما زوي منها، بشرط أن يعملوا على إقامتها، ويولوها ما تستحق من الوجوب، باتخاذها قضية مصيرية لهم، يتوقف عليها وجودهم، وعزتهم، ونهضتهم ورفعة شأنهم، ورضا ربهم، فإلى ذلك ندعوكم أيها المسلمون، لتكونوا السهم الذي يرمي به الحقُ الباطلَ ليدمغه فإذا هو زاهق، وليعود الخليفة درعا حامية للأمة، وسيفا مسلطا على من يتربص بها، وليعم نور العدل الإلهي، ورحمة الأحكام الربانية الأرض كلها مشارقها ومغاربها، فعلى أيديكم يتحقق التتويج العملي لانتصار الحق على الباطل في الأرض كل الأرض، شرفا ما بعده شرف!
رأيك في الموضوع