عقد مركز الدراسات الاستراتيجية مؤتمرا تحت عنوان "ما بعد الإسلام السياسي"، والذي عقد بالتواطؤ بين المركز في الجامعة الأردنية وبين مؤسسة فريدرتش إيبرت الألمانية، والتي تتخذ من عمان مقرا لها، حيث تقوم المؤسسة بتقديم (خدماتها) تحت ما يسمى خدمة المجتمع المدني والعمل على تنشيط المرأة والشباب، وتقوم وزارة الخارجية الألمانية برعاية هذه المؤسسة ماليا وفكريا وتشرف على أعمالها. يأتي هذا المؤتمر والذي دعا هؤلاء المؤتمرون - وهم من أكثر من عشر دول - لبحث موضوع الإسلام السياسي، هو الإخفاقات التي مني بها الإسلام السياسي وحركاته التي وصلت للحكم في مصر وتونس، والتي تمثلت بالإخوان المسلمين في مصر وتونس، وقد وضع هؤلاء المؤتمرون ثابتاً وأصلا بنوا عليه أوراقهم وكتاباتهم، وهو أن الإسلام السياسي قد أخفق في ادعائه أنه يملك مشروعا ومنهجا، وبالتالي لا بد حسب ادعائهم من بحث الأسباب التي دعت إلى إخفاقه وخلصوا بنتيجة مفادها؛ بأن الإسلام وحركاته لا تملك مشروعا سياسيا أصلا!!
إن التسطيح بل التسخيف الذي أراد هؤلاء غرسه في عقول وقلوب الناس وبخاصة المسلمين منهم لا يليق بمستوياتهم التعليمية والأكاديمية، وإن جعل حركة النهضة مثلا يقاس عليه وشاهدا على إخفاق الإسلام السياسي كمشروع هو تسفيه لعقول الناس، فحركة النهضة لا تملك مشروعا أصلا يجري عليه محاكمتها، وبالتالي فإخفاقها ليس إخفاقا لمشروع الإسلام السياسي فضلا عن أنها لم تدّع يوما أنها صاحبة مشروع إسلامي في الحكم والسياسة. والإخوان المسلمون في مصر لم يدّعوا يوما أنهم يملكون فكرة، أو طريقة لتنفيذ فكرتهم، فمحاكمة الإسلام السياسي والخروج بنتائج وضعت مقدماتها خطأ، ليس من البحث العلمي، أو الأكاديمي النزيه، وما كان فاسد الأصل، كان فاسد الفرع بالضرورة.
إن من يقدم نفسه على أنه صاحب فكرة "الإسلام السياسي" هو من لا يقبل أي شيء من غير الإسلام إن كان في الاقتصاد، أو الاجتماع، أو السياسة الداخلية، أو الخارجية... وإن من قصر به الفهم عن كون الإسلام ديناً شاملاً كاملاً، وأحكامه لا يعتريها النقص والزلل، فليجلس في بيته ولا يدعي أنه يمثل الإسلام السياسي في شيء، حتى إذا أخفق نسب إخفاقه إلى الإسلام وأحكامه، وتلقف هؤلاء من المؤتمرين وأمثالهم سقطته، وإخفاقه، فنسبوها إلى الإسلام! والغريب أن هؤلاء لو خولتهم دراسة سقوط الشيوعية كمذهب سياسي فإنهم يرفضون دراسته في حقبة غورباتشوف، أو يلتسين بادعاء أن هذين لا يمثلان الفكرة الاشتراكية، بينما تجدهم يتلقفون تجربة حركة النهضة في تونس والإخوان المسلمين في مصر ليصلوا إلى ما يريدون الوصول إليه من ادعاء إخفاق الإسلام السياسي، وقصوره عن علاج المشاكل والأزمات.
إن الإسلام السياسي واقعٌ وحقيقة ملأت سمع الدنيا وبصرها ثلاثة عشر قرنا من الزمان، ولم يكن هنالك ثمة فكرة حكمت وصمدت عُشر هذه المدة، والإسلام الذي صلح لقيادة الدنيا هذه المدة ما زال صالحا إلى يوم القيامة ولا يحتاج إلا إلى رجال تتوفر فيهم الإرادة لإعادته، والقوامة عليه، وهو نظام متكامل عالج المشاكل التي ما زال العالم عاجزا عن التفكير بحلها فضلا عن حلها وعلى رأسها مشكلة الحروب والفقر... فقسم الملكيات فحال بين الدنيا وبين الفقر، ومنع تكدس الثروة بيد حفنة من الناس فمنع الكنز، وبين أن المشكلة الاقتصادية ليست في زيادة الثروة، بل في توزيعها، وأن زيادة الدخل القومي لا تحل مشكلة الفقر بل ربما تزيده، وجعل المرأة عرضا يجب أن يصان، فمنعها من كل عمل تستخدم فيه أنوثتها وأجاز لها ما دون ذلك، وفي المجال السياسي؛ بين علاقة الدولة بغيرها من الدول والشعوب، وأجاز المعاهدات حينا ومنعها أحيانا... فكان بكل هذا وغيره دينا عظيما شاملا لم يضطر يوما أن يستورد أفكارا من غيره، فأفكاره وأحكامه جعلت الأمة باكتفاء ذاتي...
أما ما يتصوره هؤلاء المؤتمرون ويؤصلون له ويفرعون عليه بل ويفرحون إذا قدمت حركة تدعي أنها حركة سياسية إسلامية مراجعات على فكرتها تتنازل بموجبها عما تحمل وتعتقد فليس ذلك من الإسلام وفكرته وجماعته في شيء، فهؤلاء إن أحسنا الظن بهم نقول بأن الإسلام بفكرته السياسية لم تبلغه عقولهم وإنما الإسلام عندهم لا يعدو كونه دينا كباقي الأديان، وإلا ما معنى فصلهم بين الدعوي والسياسي، وما معنى قبولهم بالدولة المدنية، وما معنى قولهم بأن الإسلام لا نظام سياسيا فيه؟!! كل هذا وغيره يدل على أن هؤلاء لم يكونوا يوما يمثلون الإسلام السياسي حتى تقرع الأجراس، وتصفق الأيدي؛ ابتهاجا بتراجعهم ومراجعاتهم وإنما هؤلاء هم وجه آخر للعلمانية ولكن بأسماء مختلفة، فمرة يتبدلونها بالدولة المدنية، ومرة يجعلون الديمقراطية كالشورى، ومرة ومرة...
أخيرا نقول لهؤلاء المؤتمرين: إن من يحمل مشروع الإسلام السياسي هو حزب التحرير حصرا، وهو الذي ينبغي منازلته إن أردتم المنازلة، وهو القادر أن يدفع عن الفكرة إن أردتم المقارعة، وإلا فإنكم تصارعون نمرا من ورق مهزوماً دون نزال، ثم لما هزم أصابتكم نشوة الانتصار، مع أنه كان ينبغي إن أردتم العمل كأكاديميين شرفاء وكتاب منصفين، أن تستضيفوا من نذر نفسه منذ أوائل الخمسينات أن يكون المقاتل الحقيقي في حرب الأفكار لا أن تستضيفوا من ترك الصراع وأعلن الهزيمة حتى قبل أن يتجهز للمعركة، ويخوض غمارها!! كان ينبغي أن توجه الدعوة لحزب التحرير لخوض هذا النزال، وإلا فإنكم تقاتلون من طرف واحد، فلا أنتم انتصرتم ولا إسلام سياسيا هزمتموه، والحكم على إخفاق الإسلام السياسي وإعلان انتصاركم عليه هو عندما يصل الإسلام إلى الحكم، ويكون هناك دولة تطبقه، ولا تستورد أفكارها كما البضائع، وتعبد الله اثني عشر شهرا تقيم العدل وتنشر القيم في جنبات الأرض، وحينها تكون الحرب عادلة، فالإسلام بفكرته التي تحملها الدولة وأعداؤه إن بقي له أعداء فتكون حينها سعادتكم مبررة، وانتشاؤكم مفهوماً! ﴿فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ﴾
بقلم: الأستاذ أبو المعتز بالله الأشقر
رأيك في الموضوع