نعلم جميعاً أننا لا نعيش هذه الأيام حياة طبيعية، وكيف نعيشها ونحن نشاهد بأم أعيننا الواقع الذي يعيشه المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها، ما يجعلنا نعتصر ألماً للحالة التي وصلت إليها الأمة الإسلامية العظيمة، هذه الأمة التي وصفها الله سبحانه وتعالى بأنها خير أمة أخرجت للنّاس، وأكثرنا ألماً هو من يستشعر الفرق بين ما كانت عليه هذه الأمة في سابق عهدها وبين ما تعيشه اليوم من ويلات، أكثرنا ألماً من يستشعر الفارق بين وصف هذه الأمة في نصوص القرآن، وبين واقع الحياة التي نعيشها.
ليس صعباً على أي مسلم أن يصف الحال التي وصلنا إليها، لكن في الوقت نفسه يعجز الكثيرون عن معرفة الأسباب الحقيقية التي أوصلت الأمة الإسلامية إلى ما هي عليه اليوم، ويظهر هذا العجز من خلال الأجوبة التي تأتي من الناس على سؤال: لماذا هذا حالنا؟
فمنهم من يقول لأننا لا نحب بعضنا بعضاً. ومنهم من يقول إننا لا نستحق أفضل من هذا الحال. ومنهم من يرى أن سبب معاناتنا يرجع للانحلال الأخلاقي في المجتمع...
وتطول قائمة الأجوبة عن سبب ضياع هذه الأمة العظيمة.
وفي مثل هذا الحال بين لنا الله سبحانه وتعالى أن نرجع للعلماء وطلبة العلم حتى يبينوا لنا السبب الحقيقي وراء ما نحن فيه من واقع مرير، قال تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾. فأين هم أمناء الرسل من كل هذا؟!
وبالتوجه إلى العلماء وطلاب العلم نجد أنهم حملوا سياطهم وتأهبوا لجلد الأمة (إلا من رحم ربي) فلا جواب ولا حلَّ عندهم، إلا ترسيخ ما اعتاد الناس على قوله من أن السبب للحال المريرة التي نعيشها يعود لعدم حُبِّ بعضنا بعضاً ولعدم وجود الأخلاق الحميدة وما إلى ذلك من أجوبة لا تسمن ولا تغني من جوع، فهم يحمِّلون الأمة مسؤولية ما وصلت إليه، وأنها السبب وراء كل ذلك، فمن توجه إليهم ليجد عندهم جواباً شافياً يصدق فيه قول القائل: إلى الماء يسعى من يغصُّ بلقمةٍ *** قل أين يسعى من يغص بماءِ؟!
كيف يرسِّخ العلماء في الأمة حالة الضياع وهم الذين يتلون قول الله جل جلاله: ﴿إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾؟!
ألم يقفوا على حديث النبي ﷺ «مَنْ كَتَمَ عِلْماً أَلْجَمَهُ اللهُ بِلِجِامٍ مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، أم أنَّ الذي شغلهم من كتاب الله هو مخارج الحروف وأحكام التلاوة والتجويد فقط، ومن حديث النبي ﷺ المتن والسند؟!
روى أبو نعيم في الحلية عن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال: «صِنْفَانِ مِنَ النَّاسِ إِذَا صَلَحَا صَلَحَ النَّاسُ وَإِذَا فَسَدَا فَسَدَ النَّاسُ: الْعُلَمَاءُ وَالأُمَرَاءُ».
هذان الصنفان من الناس هم أس البلاء، ولذلك بين النبي عليه الصلاة والسلام حال العالم الذي يخالط السلطان بأنه لص يجب الحذر منه، أخرج الديلمي في مسند الفردوس، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «إِذا رَأيْتَ العالِمَ يُخالِطُ السُّلْطانَ مُخالطَةً كَثِيرَةً فاعْلَمْ أنَّهُ لِصٌّ».
علماء يصعدون على منبر رسول الله ﷺ، فيحدِّثون الناس بما لا يصلح حالهم، فالناس في وادٍ والعلماء في وادٍ آخر، إذا تكلم أحدهم عن العبادات الفردية تراه لا يُشقُّ له غبار، أما الفروض التي يجب أن تقوم بها جماعة فلا شأن له بها، يأخذ من القرآن ما لا يزعج ولاة أمره، أما ما ينازعهم سلطانهم فيجد لنفسه ألف مبرر لكي يسكت عنه!!
يعطي الدروس والمحاضرات في قوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِى الْمَحِيضِ﴾، أما قوله تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمٌوا تَسْلِيماً﴾ فيمر عليه مروراً وكأن الأمر لا يعنيه! يستجيب لأمر الله تعالى في قوله: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ ويُعرض كل الإعراض عن قوله تعالى: ﴿وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُم وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللهُ إِلَيْكَ﴾!!
كل ذلك من أجل رضا أولياء نعمته من أصحاب السلطان الذين خالطهم فأصلح لهم دنياهم وأفسدوا عليه آخرته، فصدق فيه حديث النبي ﷺ: «الْعُلَمَاءُ أُمَنَاءُ الرُّسُلِ عَلَى عِبَادِ اللَّهِ مَا لَمْ يُخَالِطُوا السُّلْطَانَ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ فَقَدْ خَانُوا الرُّسُلَ فَاحْذَرُوهُمْ وَاعْتَزِلُوهُمْ». نعم لقد خالطوا السلطان وخانوا الرسل فوجب الحذر منهم واعتزالهم.
إن من أشد ما ابتليت به الأمة الإسلامية بعد غياب الإسلام عن واقع حياتها، هم علماء السلاطين الذين يزينون للظلمة أعمالهم ويقفون سداً منيعاً بين الأمة وبين من سلبها سلطانها وأوغل في عذابها من عملاء الغرب الذين جثوا على صدرها، ولذلك بين لنا النبي ﷺ في كثير من الأحاديث خطر علماء السلطان.
أخرج ابن عدي، عن أبي هريرة، رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «إِنَّ فِي جَهَنَّمَ وادِياً تَسْتَعِيذُ مِنْهُ جَهَنَّمُ كُلَّ يَومٍ سَبْعِينَ مَرَّة، أَعَدَّهُ اللهُ لِلقُرَّاءِ الْمُرائِينَ بِأَعْمالِهِمْ، وَإِنَّ أَبْغَضَ الْخَلْقِ إِلَى اللهِ عَالِمُ السُّلْطانِ»، وأخرج ابن ماجه، عن ابي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: «وَإِنَّ مِنْ أَبْغَضِ الْقُرَّاءِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى الَّذِينَ يَزُورُونَ الْأُمَرَاءَ».
لا تجد فيهم مواقف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والوقوف في وجه الظلمة، تأسياً بالعلماء الربانيين الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم، فهذا الحسن البصري رحمه الله وقد أحضره الحجاج ليرى داره الجديدة في واسط فلما دخلها الحسن قال: "الحمد لله إن الملوك ليرون لأنفسهم عزّاً، وإنا لنرى فيهم كل يوم عبراً، يعمد أحدهم إلى القصر فيشيده، وإلى الفراش فينجده، وإلى الملابس والمراكب فيحسنها، ثم يحف به طمع وفراش ونار، وأصحاب سوء، فيقول انظروا ما صنعت: فقد رأينا أيها المغرور، فكان ماذا يا أفسق الفاسقين. أما أهل السماوات فقد مقتوك، وأهل الأرض فقد لعنوك، بنيت دار الفناء، وخربت دار البقاء، وغررت في دار الغرور لِتُذلَّ في دار الحبور"، ثم خرج رحمه الله وهو يقول: "إن الله أخذ عهده على العلماء، ليبيننه للناس ولا يكتمونه".
أما العلماء الربانيون اليوم، فهم إما في غيابات السجون، أو محجور عليهم فلا يقربهم الإعلام، أو ملاحقون من الأنظمة الظالمة وأجهزة مخابراتها، فهم الذين قال فيهم رسول الله ﷺ فيما رواه مسلم عن أبي هريرة: «بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيباً، ثُمَّ يَعُودُ غَرِيباً كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ» قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمِنَ الْغُرَبَاءِ؟ قَالَ: «الَّذِينَ يُصْلِحُونَ إِذَا فَسَدَ النَّاسُ» وبين لنا النبي ﷺ قلَّتهم فقال في رواية أخرى: «هُمْ أُناسٌ صَالِحُونَ قَلِيلٌ في أُناسِ سُوءٍ كَثِيرٍ».
كم هي الأمة الإسلامية اليوم بحاجة لمثل هؤلاء الرجال الذين يرسمون لها طريق خلاصها، ويسيرون أمامها لتغيير واقع حالها الذي تعيشه بسبب الحكم الجبري الخبيث، الذي أهلك الحرث والنَّسل، ويعملون جاهدين لعودة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة التي يُعزٌّ فيها أهل الإيمان والطاعات، ويذل فيها أهل الشرك والمعاصي، أسأل الله أن يكون ذلك قريباً فهو على ذلك قدير، وبالإجابة جدير.
بقلم: الأستاذ أحمد عبد الجواد الحجي
رأيك في الموضوع