المسجد الأقصى قضية من قضايا الأمة المصيرية، ويمكن بلورة الجوانب التشريعية لآية الإسراء وحديث شد الرحال على شكل فهم سياسي واضح يُبيّن المعالجات الفقهية الخاصة بالمسجد الأقصى بكل وضوح، وذلك على النحو التالي:
1- قول الله سبحانه وتعالى في سورة الإسراء: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ يتناول علاقة الاقتران بين قدسية المسجد الحرام وقدسية المسجد الأقصى، والسؤال الأول المطروح هنا هو: ما الحكم الشرعي المفهوم من هذه العلاقة بين المسجدين؟
والجواب هو أنّه يُفهم من هذا الاقتران وجوب الدفاع عن المسجدين، لأنّ المكان المقدس يُدافع عنه وجوباً للحفاظ عليه، ويتساوى في هذه الآية الدفاع عن المسجد الأقصى والدفاع عن المسجد الحرام، ولأنّ قدسيتهما واحدة فالدفاع عنهما واحد، وهو حكم شرعي واجب على جميع المسلمين.
2- وأمّا دلالة قوله سبحانه وتعالى: ﴿الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ﴾ فتعني مساحة المكان المقصود بالآية، وعند تحقيق مناط هذا المكان نجد غالبية المفسرين يقولون بأنّ الأراضي التي باركها الله سبحانه حول المسجد الأقصى تعني كل بلاد الشام، وحدود بلاد الشام الطبيعية المتعارف عليها في ذلك الوقت تمتد من العريش وتبوك جنوباً إلى حلب وأضنة شمالاً، ومن بحر الروم (المتوسط) غرباً إلى نهر الفرات شرقاً.
فكل البلاد الواقعة ضمن هذه الحدود هي بلاد مُباركة حول المسجد الأقصى، وينطبق عليها وصف: ﴿الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ﴾، وحكم الدفاع عنها كحكم الدفاع عن المسجد الأقصى نفسه سواء بسواء، وكحكم الدفاع عن المسجد الحرام، فالدفاع عن القدس كالدفاع عن يافا وحيفا، والدفاع عن أي بلد في بلاد الشام كالدفاع عن مكة ذاتها.
3- أمّا السؤال الثاني المطروح هنا فهو: كيف يُدافع عن هذه الديار المباركة؟ وعلى من تقع أولوية الدفاع عنها؟
والجواب أنها تقع على عاتق الجيوش التي تمتلك إمكانيات الدفاع عن هذه الأراضي، لأنّ فيها مظنة وجود القدرة على فعل ذلك، وأمّا من هو المخوّل بالقيام بذلك فهو رئيس الدولة الإسلامية، الإمام الذي هو راع ومسؤول عن رعيته.
وإذا كان الإمام غير موجود فيجب العمل على إيجاده ليقوم هو برعاية شؤون رعيته، وأولها الدفاع عن هذه البلاد المباركة.
ولا يقال إنه في حال غياب الإمام تنتقل الرعاية إلى الناس العاديين الذين لا يملكون إمكانيات القتال والدفاع، لا يقال ذلك، بل يقال يجب العمل على إيجاد الإمام ومبايعته للقيام بهذا الواجب.
والإمام يعني ببساطة الدولة الإسلامية بما لديها من جيش واستخبارات وأجهزة حكم، وإيجاد الإمام كما هو واجب في ذاته، فهو أيضاً واجب من أجل تحرير الديار المباركة.
وإذا كان تخليص الديار المباركة واجب على المسلمين، وأنّ هذا الواجب لا يتم إلا من خلال إيجاد الإمام، فيكون إيجاد الإمام واجباً من باب "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب".
4- حديث الرسول ﷺ المشهور: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِي هَذَا وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى»، يتضمن هذا الحديث حكم وجوب تمكين المسلمين من شد الرحال إلى المسجد الأقصى تماماً كشد الرحال إلى المسجد الحرام والمسجد النبوي، فإذا وُجدت عوائق تحول دون تمكين المسلمين من شد الرحال إلى المسجد الأقصى كوجود الاحتلال فيجب عندها العمل على إزالة هذه العوائق، وإذا كانت هذه العوائق لا تُزال إلا بالقتال واستنفار الجيوش، فيجب عندها إقامة الإمام الذي يعمل بقيادته للدولة والجيش على إزالة هذا الاحتلال من أجل تطبيق الحكم الشرعي وهو: وجوب تمكين المسلمين من القيام بشد الرحال إلى المسجد الأقصى من باب "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب".
فموضوع المسجد الأقصى باختصار هو موضوع آية الإسراء وحديث شد الرحال، والحكم الشرعي الذي دلت عليه الآية ودلّ عليه الحديث يوجب العمل لإقامة الإمام الذي يعني العمل لإقامة الخلافة التي يقوم جيشها بالدفاع عن الأرض المباركة كلها، كما يقوم في الوقت نفسه بإزالة العوائق التي تحول دون شد الرحال إلى الأقصى.
هذه هي الجوانب التشريعية للآية والحديث والتي تدل على وجوب تنصيب الخليفة ليقوم بهذه الأعمال العظيمة، وهذا يناقض ما يُروجه أصحاب الأفهام السقيمة التي تغفل عن هذه المعاني الواضحة، وتشغل الناس بالحديث عن التنبؤات والتوقعات والأماني بالتغيير من دون عمل، فتخدّر الناس وتحيلهم إلى قدريين غيبيين لا يحسنون سوى الانتظار والتعلق بالأوهام!
رأيك في الموضوع