بات تفاقم الأزمات يشكل جزءاً من حياة أهل السودان حتى ترسخت لدى الناس قناعة بأن حياتهم المعيشية لن تتحسن بل ستزداد صعوبة في ظل هذه الأنظمة الرأسمالية، فوق ارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة وعدم الأمن تضاف معضلة الكهرباء، فقد ظلت مشكلة الانقطاع في التيار الكهربائي تتفاقم بالرغم من تغيير الحكومات التي تطلق وعوداً سراباً فقط.
يشكل انقطاع التيار الكهربائي معضلة كبرى لقطاع الرعاية الصحية لاعتمادها الكلي على الكهرباء حيث تعاني المستشفيات من كارثة حقيقية حيث تتوقف الأجهزة الطبية التي تشكل عصباً أساسياً في عملية التشخيص للمرضى مثل غرف الأشعة وماكينات غسيل الكلى...
كما تضررت قطاعات حيوية بسبب الانقطاع المتكرر للكهرباء مثل خدمات الجمهور وعدد من القطاعات التجارية والصناعية التي تعد الكهرباء عمودها الفقري مما انعكس على السوق بقلة الإنتاج وارتفاع الأسعار.
سِعات التوليد الحراري والمائي الحالية يصل إنتاجها إلى 2700 ميغاواط حسب أقرب إحصائية. ويستورد السودان الكهرباء من مصر وإثيوبيا بالعملة الصعبة، فيما يحصل 40% من السكان فقط على خدمات الكهرباء بينما تعتمد النسبة الباقية على مولدات الديزل لتوفير الكهرباء في الوقت الذي تتوفر فيه الموارد المشجعة لتوفير الكهرباء من الطاقة البديلة حيث يعد السودان من أنسب الدول لإنتاج الطاقة النووية والطاقات المتجددة أو ما يسمى بالطاقة المستدامة لا سيما الطاقة الشمسية وطاقة الرياح وطاقة المياه وطاقة الكتلة الحيوية وطاقة حرارة باطن الأرض، حيث يتمتع السودان بإشعاع شمسي عالٍ يقدر بعشر ساعات في اليوم، كما يمتلك السودان الرمال التي تتوفر فيها مادة السيليكون التي تصنع منها الخلية الشمسية، ووفقاً لدراسات المركز القومي لأبحاث الطاقة فإن متوسط مدة إشراق الشمس من 5-7 كيلو واط في الساعة في المتر المربع، وهناك طاقة رياح سرعتها تصل إلى أربعة أمتار في الثانية، وتوجد في السودان مناطق ملائمة لاستغلال طاقة باطن الأرض منها جبل مرة وجبال البحر الأحمر، أما الموارد المائية فنهر النيل أطول نهر في العالم فتقدر المواقع المناسبة لتشغيل توربين مائي على امتداده بـ450 موقعاً؛ بلد يمتلك كل هذه المصادر المتنوعة لإنتاج الكهرباء لماذا لم يستفد منها؟ ولماذا لم تستغل على النحو الأمثل؟
السبب في ذلك أن الأنظمة الحاكمة تخضع لسياسة واحدة وهي خصخصة القطاعات الخدمية العامة بما في ذلك قطاع الكهرباء؛ ففي 28 حزيران/يونيو 2010م أصدر مجلس الوزراء قرارا قضى بموجبه إلغاء الهيئة القومية للكهرباء وأنشئت مجموعة شركات تؤول إليها كل حقوق والتزامات الهيئة القومية للكهرباء. وفي العام 2017م أنشئت الشركة القابضة للكهرباء حيث تتبع لها شركات التوليد والنقل والتوزيع، وادعت الحكومة أن هذا التحول من أجل تطوير قطاع الكهرباء واستدامة نموه، ولكن الواقع عكس ذلك فالأزمة الأخيرة في انقطاع التيار الكهربائي التي تصل من 5 إلى 10 ساعات خلال اليوم تبين مدى تردي مستوى تقديم الخدمات وتعكس حرص الحكومة على تحكّم الرأسماليين بموارد الأمة، فبينما الشارع متذمر من الأزمة الأخيرة يسأل عن الحلول والمعالجات لمعضلة عدم استقرار التيار الكهربائي، تتحدث الحكومة الحالية عن رفع الدعم عن الكهرباء، بعد أن نفذها في الوقود والخبز وزير المالية إبراهيم البدوي فقال: (رفع الدعم عن الوقود والدقيق والكهرباء يوفر 104 مليار جنيه لدعم خزينة الدولة) (موقع النيلين)، وما ذلك إلا استمرار في تنفيذ روشتات صندوق النقد الدولي الذي تنص أحد تقاريرها على: (إعادة النظر في إصلاح قطاع الكهرباء في العالم النامي) وذلك بإنشاء هيئات تنظيمية مستقلة إلى جانب خصخصة أجزاء من صناعة الكهرباء والتوجه إلى السوق والسماح بالمنافسة، وهو ما طبقته الأنظمة الحاكمة بحذافيره، ويشرف البنك الدولي على الهيئات التنظيمية التي أوكلت إليها مسألة تحديد الأسعار ومراقبة جودة الخدمة، يظهر ذلك من خلال الورش التي ينظمها البنك الدولي لتدريب الكوادر الذين بدورهم ينفذون توصيات صندوق النقد والبنك الدوليين؛ ففي تشرين الثاني/نوفمبر من العام 2019م نظمت الشركة القابضة للكهرباء مع خبراء البنك الدولي ورشة بعنوان: "مشروعات التوليد المستقل بالسودان" بالخرطوم وقال المهندس علي عبد الرحمن مدير الإدارة العامة للسياسات والتخطيط بالشركة القابضة: "إن التوليد المستقل يعنى بمشاركة القطاع الخاص في مشروعات البنى التحتية في مجال الكهرباء حيث تعد العقود التي تبرم في هذا القطاع طويلة الأجل إذ تمتد لأكثر من 20 عاماً، وأضاف بأن الورشة بحضور شركات الكهرباء وخبراء في مجال الطاقات المتجددة ووزارة المالية ووزارة الطاقة والتعدين ومؤسسات القطاع الخاص" (وكالة السودان للأنباء 23 تشرين الثاني/نوفمبر 2019م).
كما ذكر صندوق النقد الدولي أن فريقاً تابعاً له عقد اجتماعات افتراضية مع السلطات السودانية لبحث حزمة الإصلاحات التي قدمها والتي من بينها إصلاح دعم الطاقة، وقال دانيال كاندا قائد فريق صندوق النقد الدولي: "أنهم توصلوا مع السلطات السودانية إلى اتفاق بشأن السياسات والإصلاحات التي يمكن أن تدعم برنامجاً يراقبه الصندوق" (الشرق الأوسط 25 حزيران/يونيو 2020م).
انصياعاً وخضوعاً لروشتات صندوق النقد الدولي تعاقدت الحكومة مع عدة شركات خاصة من أجل مدها بالكهرباء مما أوقع الدولة في مصيدة الدين، "هددت شركة تركية مسؤولة عن إمداد مدن غرب السودان، نهاية الشهر الجاري بقطع الإمداد الكهربائي عن المدن الغربية بسبب مستحقات مالية لم تدفعها الحكومة، وقبل أسابيع توقفت باخرة تركية بالبحر الأحمر كانت تزود السودان بالكهرباء" (شبكة عين 15 آذار/مارس 2020م).
إن صندوق النقد والبنك الدوليين من أدوات الاستعمار بل من أكثر أدوات الاستعمار فعالية، والأنظمة المتعاقبة على حكم السودان بتآمرها مع المستعمرين ترتكب جرائم في حق أهل السودان؛ بمنعهم الاستفادة من الموارد التي حباها الله لهذا البلد، وإعطائها للمستعمر باسم الاستثمار، وكذلك تمنع تلك الأنظمة الإنتاج، فلا زراعة كافية ولا صناعة حقيقية، كل ذلك من أجل أن يظل هذا البلد خاضعاً تحت سيطرة المستعمرين.
إن الكهرباء هي من الملكيات العامة التي جعل الشرع حق الانتفاع بها للناس كافة، يقول النبي ﷺ: »الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ؛ فِي الْكَلَإِ وَالْمَاءِ وَالنَّارِ«. رواه أحمد وأبو داود
ما دام النظام الرأسمالي يتحكم في مفاصل الحياة فلن يعيش المسلمون ولا البشرية كافة بسعادة؛ فأسّ المشكلة هي في هذا النظام الرأسمالي الذي يفصل الدين عن الحياة ويؤسس لحياة ظالمة عن طريق جعل كل موارد البلاد بيد حفنة من الرأسماليين الجشعين، ولا يمكن للبشرية أن تعيش حياة آمنة مطمئنة إلا بتطبيق نظام الإسلام الذي يعدل بين الناس كافة في توزيع هذه الثروات وذلك عن طريق إقامة دولته دولة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة.
بقلم: الأستاذ وليد محمد إبراهيم
رأيك في الموضوع