الإنسانية كلمة مستحدثة، لكنها صارت شائعة وحاضرة في تفصيلات كثيرة من حياتنا خصوصا لحسم الجدال بين الناس حينما تتصادم آراؤهم وثقافاتهم ومواقفهم ومقاييسهم في الحياة فتُوَظّف "الإنسانية" كقاسم مشترك بين جميع الناس بعيدا عن وجهات النظر المختلفة القائمة على عقائد متباينة في التأصيل والتفصيل.
ولعلّ مفهوم الإنسانيّة بهذا الطرح "المعاصر" هو إقصاء للدين ولكلّ موروث عقدي يعتمد عليه الإنسان في تحديد موقفه من شخص أو من فعل وضبط سلوكه بناء على ما يدين به، وهذا ما يدفع بالناس للتصادم والصراع وخلق التمايز بينهم وتدافع بعضهم بعضا فكريّا وماديا وحضاريا. لذا كان من السهل على أصحاب الفكر العلماني اتهام الدين بخلق الفرقة بين الناس والتناحر بينهم وصولا لاتهام الدين بالفتنة!
وبكلّ خبث يُقدّم مفهوم الإنسانية كجامع بين الناس يُحقق بينهم الحبّ والاحترام والتسامح والسلام لأنه مبنيّ على تقبّل كلّ الاختلافات، أما الدين فأمر شخصي لكن لا اعتبار له في سلّم التقييمات والمراجع ووجهات النظر!
وهكذا نُدرك بوضوح حجم التلاعب بهذا اللفظ وإعطاءه صبغة السلام والأمان وإحلال مبدأ الإخاء بين البشر والفصل المتعمّد لدين الإسلام وهو المقصود والمستهدف بهذا الفهم المضلّل.
فهل يُمكن للمسلم وهو يعيش بأكمل الشرائع التي أتمّها الله وارتضاها لكل البشر، وهو الذي يحمل خير دين وأعظم رسالة، وهو الذي جعله الله تعالى وسَطا في الناس وشهيدا عليهم يوم القيامة، هل يرضى بأن يُقصيَ دينه ويستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير؟ فأي خير أعظم من الإيمان وأيّ خير أعظم من الإسلام؟
فميزة المسلم أنّ علاقته بربّه وصلته به هي ما تُقوّي علاقته بأهله وبمحيطه وبالإنسانيّة كلّها، فكلّما زاد قرب المسلم من ربّه استشعر عظمة هذه العقيدة التي يؤمن بها وعظم مسؤوليّته أمام ربّه وأمته والبشريّة جمعاء لبلوغ هذا الدين ما بلغ الليل والنهار لأنّه لا خير على الناس أعظم من الإيمان الذي يُنجي من شقاء الدنيا وعذاب الآخرة.
إنّ أسمى مراتب الإنسانية يُدركها المسلم قبل غيره لأنّه من تمام حبّ الناس هو حبّ الخير لهم وليس أصدق من قوله e «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» رواه البخاري ومسلم. لذا كان دور المسلم في هذه الحياة هو حمل هذا الدين وتطبيقه والعيش به وإيصال هذه الرسالة للبشريّة جمعاء لتحقيق ذلك الخير وبلوغ تلك السعادة والطمأنينة، وهذا قول الله تعالى: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران: 104] هذا الخير هو الإسلام!
إن الإسلام هو أصل الإنسانيّة إذ أنزله الله تعالى ليحفظ به الإنسان ويضمن له السعادة في الدنيا والآخرة وأعظم إنسانيّة حقيقية هي أن يشعر الإنسان براحة صادقة تنبع من داخله، بعد أن آمن بفكرة أقنعت عقله ووافقت فطرته وملأت قلبه طمأنينة وسكينة دفعته لحمل هذه السعادة والطمأنينة للآخرين.
فأن تسجد سجدة بين يدي الله باكيا خاشعا متضرّعا حتّى يتبلّل وجهك من الدموع فتغسل قلبك وتشعر بعدها بهناء وسكون، لا يعرفه إلاّ المسلم، وأن تعطي من مالك صدقة تؤثرها على نفسك فتبتسم وحدك ابتسامة في الخفاء وتشعر بطمأنينة ورضا لا يعرفها إلا المسلم، وأن تبرّ بوالديك وتقبّل قدمي أمك وتطلب منها الرضا فتدعو لك بالخير، لا يعيش هذا الخير إلا المسلم، وأن تُسجن وتُعذّب وتُظلم من أجل هذا الدين لكنك تحتسب ذلك عند اللّه وترجو منه القبول وتفخر به، شعور لا يعرفه إلا المسلم، وأن تقارع الحكام وتقوم عليهم رغم ضعفك وقلة حيلتك، عزّة لا يعرفها إلا المسلم، وأن تعمل لإحياء هذا الدين من جديد رغم التثبيط والتنكيل ورغم المآسي التي تحيط بك من كل جبهة، ثقة بالله عظيمة لا يعرفها إلا المسلم، وأن تعيش بأحكام ربّك في الحكم والقضاء والاجتماع والاقتصاد فيتحقق الحق والعدل وتستقيم الحياة وتهنأ النفوس وتقرّ الأعين وتشرق الأرض بنور ربّها، فخر لا يعرفه إلا المسلم...
مواقف كثيرة نمرّ بها في حياتنا نحن المسلمين ومشاعر عظيمة وهناء وطمأنينة وسعادة محروم منها مليارات من الناس في هذا الكون، مشاعر تتجاوز الماديّة والانتفاع بالمأكل والمشرب وإشباع الغرائز، هو شعور يتلخّص في سعادة كبيرة يُحققها العبد حينما يُرضي ربّه بشكل صحيح وسليم، وهذا ما يجهله غير المسلمين.
إنّ الإسلام فقط هو من حثّ المسلم على أن يحمل تلك السعادة وذلك الرضا والخير لكلّ إنسان، وأن نُحبّ لكل الناس الهداية والصلاح والنجاة في الدنيا والآخرة ونشفق على غير المسلمين لما هم عليه من ضلال وشقاء، وحمل هذا الخير يكون بالدعوة والجهاد، بالصراع الفكري والكفاح السياسي، ببيان الباطل ومحاربة الكفر، برفع السلاح واستعمال القوة على من يناصبوننا العداء، ليُضحّي المسلم بحياته ويستشهد حتى ينقذ غيره من براثن الكفر والتوهان والشقاء.
من هنا فإن مفهوم الإنسانية لا يكتمل إلا بالإسلام الذي يخرج الناس من الظلمات إلى النور ويحمل الخير لكل البشر، ﴿أَوَمَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾.
بقلم: الأستاذة نسرين بوظافري
رأيك في الموضوع