أعلنت وزارة الصّحّة التونسيّة يوم 9/03/2019، وفاة 11 وليدا بمركز التوليد وطب الرضيع بالرابطة، الذي يُعدّ أهمّ وأكبر مستشفى في تونس في مجاله. وأذن رئيس الحكومة بفتح تحقيق، واستقال وزير الصّحّة، وعقدت وزيرة الصحة بالنيابة، سنية بالشيخ مؤتمرا صحافيا يوم الاثنين 11/03/2019، أكّدت فيه أنّ نتائج التحقيقات المرتقبة في وفاة 12 رضيعاً ستنتهي بمحاسبة المسؤولين عن التسبب في تلك "الفاجعة"، مشيرة إلى أنّ "جرثومة في المستحضرات الغذائية تسببت في تلك الوفيات المؤسفة"، ثمّ جاءت الأخبار بتغييرات في تركيبة لجنة التّحقيق لأنّ إحدى أعضائها هي ابنة مالكة الشركة التي تحوم حولها الشبهات، هذا مع تضارب شديد في أعداد الوفيات من الرضّع خاصّة وأنّ لجنة الدّفاع عن عائلات الضّحايا تقدّمت إلى النّيابة العموميّة تطلب منها أن تجعل القسم الذي وقعت فيه الوفيّات تحت رقابتها المباشرة لأنّ شكوكا كثيرة تحوم حول التغطية على الحجم الحقيقي للوفيّات، علما وأنّ رضّعا آخرين سُلّموا موتى إلى أهلهم لكنّ إدارة المستشفى تزعم أنّ وفيّاتهم كانت لأسباب أخرى.
لم تكن هذه الحادثة الأولى في تونس التي تُزهق فيها الأرواح البريئة في ظروف مريبة، وتُشكّل لجان للتحقيق، ثمّ ينسى الجميع الأمر ويُغلق الملفّ، حتّى قيل: "إذا أردت أن تغلق ملفّا فشكّل له لجنة تحقيق"!
إنّ ما حدث ويحدث في تونس هو جرائم متسلسلة، القاتل فيها معلوم غير مجهول، فأمر أزمات قطاع الصحة وما يعانيه من إهمال وتضييع معلوم للجميع، إذ تتالت مؤشّرات الانهيار الشّامل خاصّة في السنوات الأخيرة: عودة أمراض وأوبئة، كنا نخالها انقرضت، أعداد وفيات مرتفعة في فئات عمرية معينة رغم تحذيرات متكرّرة من ارتفاع حالات الوفيات خاصّة في صفوف النساء الحوامل والرضع، كما صرنا نشكو من نقص حادّ في الأدوية وكادت تحصل الكارثة حين فُقدت من البلاد أدوية أمراض مزمنة... وخلاصة الأمر أنّ الدّولة تخلّت عن مسؤوليّتها في توفير الرعاية الصّحيّة منذ عقود، تكويناً وبنية تحتية وتقنية، فقد مرّ على البلاد ما يقرب من ربع قرن دون أن يبنى فيها مستشفى عمومي واحد. واستمرت هذه الحال بعد الثورة، والناس ينتظرون مستشفيات تليق بهم، خصوصا في المناطق الداخلية. أمّا عن الميزانية المخصّصة لوزارة الصحة فبالكاد تفي بالحدّ الأدنى الضروري من احتياجاتها. وكان من الطّبيعي أن تكثر الوفيات في المستشفيات العموميّة، خاصّة في ظلّ نقص أطباء الاختصاص وتجميد الانتدابات في قطاع الصّحّة العموميّة، حتّى بات الإطار الطبي وشبه الطبي يشكو نقصا فادحا. وسكنت المآسي مستشفياتنا، فماتت النساء الحوامل في مستشفيات القصرين وسيدي بوزيد بسبب نقص أطبّاء الاختصاص، وماتت الطّفلة رانيا في أرياف عين دراهم لأنّ المستوصف عندهم لا يفتح إلا يوما واحدا في الأسبوع!
إنّ ما يحدث في تونس هو جريمة نظام، أدواتها سياسات رأسماليّة استعماريّة روّجوا لها وزعموا أنّهم بها سينقذون الشعب والبلاد، فإذا بها تنكشف على فواجع بل مجازر تزهق فيها الأرواح البريئة بالجملة والمفرق. ومع كلّ مأساة يُطلّ المسؤولون وتتتالى منهم التصريحات والبيانات؛ يُظهرون الجزع ويبدون الألم، ويعلنون تشكيل لجنة تحقيق وكأنّهم لا يعلمون أسباب المجزرة التي حصلت أو كأنّ الأمر جاء مفاجئاً فحدث على حين غرّة ودون مقدّمات!!
- إنّ القاتل معلوم غير مجهول؛ فالمتسبّب في قتل الأطفال هو النّظام الذي فرضه المستعمر وخدّامه الذين تسلّلوا من منافذ الدّيمقراطيّة لينفّذوا سياسات رأسماليّة فرضها الاتّحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي بمصادقة مجلس نوّاب يزعم أنّه يمثّل الشعب، فأغلقوا باب الانتداب في قطاع الصحة وصمتوا أمام هجرة آلاف الأطباء، وخضعوا لأوامر صندوق النّقد الدّولي فخفّضوا ميزانيّة الدّعم في تمهيدٍ لإبطاله، وتخفيض الدّعم يعني تخفيض الإنفاق على الصّحّة، فتشتّت النّاس بحثا عن الدّواء، وصارت ميزانيّات المستشفيات عاجزة عن توفير أبسط متطلّبات الرعاية.
- إنّ وفاة الرضّع في مستشفى الرابطة بتونس العاصمة هي جريمة قتل متعمّد تكشف وحشيّة الجهة التي تقف وراء الفئة الحاكمة؛ المستعمر الذي انقضّ على تونس التي انطلقت منها الثّورة على أنظمة الوصاية الاستعماريّة ليعاقب أهلها على ثورتهم، إنّ هذا المستعمر يعاقب الشعب التونسيّ برفع كلفة الثورة وجعل ثمنها باهظا يدفعه من كرامته وقوته بل بأرواح أبنائه يقتلهم نظام فاجر جائر.
نعم هذا نظام قاتل متوحّش، هو النّظام ذاته الذي يقتل المسلمين في الشام واليمن وفلسطين...، غير أنّ آلة القتل اختلفت، فلئن كان القتل في إخواننا في الشام واليمن وفلسطين ومصر وليبيا بالرّصاص والقنابل فإنّ القتل في تونس بسوء الرعاية والإهمال، بتوريط البلد في قروض ربويّة مهلكة قاتلة وشروط بل أوامر من صندوق النّقد الدّولي الممثّل الرسمي للدّول الاستعماريّة المقرضة، وهي أوامر لا تراعي إلا مصالح حيتان المال ولا تهتمّ إلا بجمع الأموال بل نهبها، حتّى تحوّل الوزراء في الحكومات المتعاقبة إلى أشباه موظّفين، مجرّد جباة ضرائب يحصّلونها من الفقراء بالقوّة والقهر ليدفعوها إلى المرابين العالميين، حفاظا على ما يزعمونه التّوازنات الماليّة!
فبماذا يختلف أشباه الحكّام في تونس عن السيسي سفّاح مصر أو بشّار جزّار الشّام؟؟؟
ورغم الفاجعة ورغم الموت المتربّص فقد فات المستعمر وخدّامه أنّهم أمام شعب مسلم لا يرهبه القتل ولا يركّعه التجويع. وفاتهم أنّهم أمام شعب استفاق وكشف المجرم فلم تنطل عليهم استقالة الوزير أو تصريحات وزيرة الصحّة بالنّيابة عن محاسبة المسؤولين، فخرجوا يندّدون بالنّظام في تعبير صادق عن الحادثة فرفعوا شعار "قتّالين ولادنا، سرّاقين بلادنا" شعاراً يبرز وعيا متميّزا إذ ربطوا بين المستعمر وخدّامه والمصائب بل الجرائم التي تتوالى على البلاد. وعلموا أنّ علاج المجزرة الكارثة لن يكون في معاقبة كبش فداء. وأنّ استقالة وزير أو تغيير الحكومة أو معاقبة الأحزاب الحاكمة يوم الانتخابات لن تمنع كوارث أخرى، ولن توقف جرائم هذا النّظام.
نعم الشعب في تونس مسلم صار يرى رأي العين ماذا جرّته السياسات الحاليّة من ويلات، ولذلك فإنّ ثورته ماضية وخروجه ضدّ المستعمر وعملائه لن يتوقّف، ولم يبق إلا أن يسير وراء قيادة سياسية واعية مخلصة ليقلعوا المستعمر قلعا ويكنسوا خدّامه كنسا ويزيلوا أفكاره وأنظمته ويقيموا دولة حقيقيّة تطبّق دين الإسلام العظيم دين الرحمة الذي ارتضاه ربّ العالمين لعباده.
بقلم: الأستاذ محمد الناصر شويخة
رئيس المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية تونس
رأيك في الموضوع