لم يعهد العالم أن يكون المطلوب للاعتقال من طينة الغرب، بل جرت العادة أن المطلوبين للاعتقال هم من يصنفهم الغرب بنفسه أنهم مجرمون، وذلك إذا انتهت صلاحيتهم، أو اقتضت صورة الغرب إدانتهم، ففي حين كانت القوات الدولية شريكة الصرب في مذابحهم ضد المسلمين في البوسنة، فإن الغرب نفسه هو من حاكم ميلوسوفيتش على جرائم الحرب، وفي الوقت الذي كان البشير أكثر من خدم الغرب في تقسيم السودان، ومع ذلك فقد كان القرار بطلبه لمحكمة الجنايات الدولية.
كان الغرب قد نصب نفسه معيارا للعدالة، من يجرّمه فهو مجرم، ومن يبرئه فهو بريء أو مسكوت عن جريمته، ولا يرى العالم غالباً أن هناك من ينتمي للغرب نفسه، ثم يمكن أن يُحاكم أو يُطلب على أنه مجرم حرب، فقد نزع هذا الغرب لنفسه حقا يعتبره أصيلا في أن يكون فوق القانون الذي وضعه، وفوق المحاسبة والمحاكمة، حتى في المحاكم التي أنشأها باسم قانونه الدولي ومؤسساته.
لكن المتغير في قرار اعتقال رئيس وزراء يهود بنيامين نتنياهو ووزير حربه يوآف غالانت هو أنه ليس تغيراً في وصف المحكمة نفسها، أو في كونها جهة ستنصف المسلمين، وليس المتغير في أن هذا الاعتقال سيتم أو لن يتم. بل المتغير أن قُبح أفعال يهود لم يعد يمكن التغطية عليه تحت أي مبرر، وأن عدم التعامل مع هذه القضية في ظل وجود رأي عام عالمي يرى بشاعة الجرائم التي يقترفها هؤلاء المجرمون، سيجعل كل متعاطف معهم مجرماً، ذلك الرأي العام العالمي الذي جعل قيم الغرب والتي سوقها ردحاً من الزمن على أنها هي الرقي والحق والعدل والإنصاف، جعل كل تلك القيم على المحك في عقر دارها قبل أي بلد آخر، وأي قيم ستبقى إن هُدمت في مهد ولادتها وضُرب بها عرض الحائط؟ خصوصا وأنه قد ظهر مقابلها منافس لا يُهزم، نزل ساحةَ المواجهة ليصارعها - على الأقل في أذهان الناس - كبديل حضاري مقبل، ذلك الخصم الذي صوره الغرب بالوحشية، ووصمه بالسيف والدم قريناً لانتشاره المذهل، ذلك الإسلام الذي أصبحت الملايين في الغرب تُقلِّب بتمعن كتبَه، وتبحث عن وسيلة لفهمه بعدما رأت أساطير الصمود والصبر في قطاع غزة في مواجهة بشاعة جرائم كيان يهود، المنبثقة من طبيعته ومِن تَلبُّسه بتلك القيم الغربية.
ومع ذلك، فإن يهود قتلة الأنبياء ومعهم أمريكا، ورغم وضوح المشهد بقوا يعيشون في صورة المتفوق جنساً وحضارة على البشر، واعتبروا أن طلب رؤوس الإجرام في كيان يهود وقاحة ومعاداة للسامية، تلك الأسطوانة الكاذبة الخاطئة التي تكسرت أمام الدنيا وملّها العالم أجمع، فهم يعتبرون أن قتل الناس وتجويعهم وإبادَتهم وأخْذ أراضيهم حق طبيعي مكتسب باسم الدين والجنس والعرق المتفوق، وقد سبق الغربُ يهودَ في هذا المجال عقوداً بل قروناً، ابتداءً من محاكم التفتيش، ومروراً بالهنود الحمر، وانتهاءً بالعبودية والرق في القارة السمراء.
إن تلك الحالة الذهنية عند يهود والغرب، الظاهرة اليوم في أمريكا والغرب، قد أصبح لها أثر متنام سيجعلها معولاً يهدم به الغرب أصنامه، حتى يعود الناس إلى رشدهم، بعدما اكتشفوا أن العالم كله عاصر شقاء ودماء وإجراما لا يمكن التعايش معه، وأنه لا بد من أن تبدل الأرض وجهَها، إذ امتلأت بالظلم والجور والخداع والكذب، ما سيدفع البشرية جمعاء أن تبحث عن نمط عيش غير نمط الحيوانية الدونية التي أوصلتها إليها الحضارة الغربية، إلى نمط آخر يعيدها على الأقل إلى بشريتها وإنسانيتها.
وعودا على القرار نفسه، فكما قلنا وبغض النظر عن الجهة التي أصدرته ومن يقف وراءها، وانقسامِ العالم المسمى حراً على قرارها، وبغض النظر عن كون هذا القرار قابلاً للتنفيذ أم لا، وبغض النظر عن الدول التي سيحسب قادة كيان يهود الحساب قبل السفر إليها، وبغض النظر كذلك عن قناعتنا بمحكمة الجنايات الدولية، فإن اعتقال أو طرد يهود المجرمين لم يأت على لسان حاكم في بلاد المسلمين، مع أن من المفترض أنهم أقرب الناس رحماً ولو ظاهراً، والأحق بمحاكمة المجرمين على ما اقترفته أيديهم في غزة، ولكنهم، ولولا تسمِّيهم بالإسلام، لسارع بعضهم إلى إدانة ذلك القرار الصادر من المحكمة الجنائية، وليس هذا بالمستبعد، فموقفهم واضح، إذ هم على رأس المعدودين بالمشاركة في جريمة قطاع غزة.
ولئن كان لهذا القرار من فائدة ذات وزن لنا نحن المسلمين، فهي فائدة واحدة وحيدة، وهي أننا حين نحرر هذه الأرض من يهود، فإن تحريرها ممن يصفهم العالم بالمجرمين، سيكون أقل مؤونة من تحريرها ممن ليسوا كذلك.
وكأن الزمن يستدير وتتهيأ الأرض أن تُملأ عدلاً وقسطاً بالإسلام، بعدما ملأها الغرب برأسماليته ظلماً وجوراً، بل وانحرافاً عن الفطرة الإنسانية، ولعل القارئ يقول أو يخطر بباله أن هذه النظرة إنما هي نظرة المسلم المحب لدينه وعقيدته، ولكنها باتت كذلك نظرة كل من له عقل وبصيرة حتى من غير المسلمين، حيث أصبح معروفا أنه مهما طال الزمان أو قصر، فإن الغرب منتهٍ، وأن المستقبل فقط لهذه الحضارة، حضارة الإسلام.
بقلم: الأستاذ عامر أبو الريش – الأرض المباركة (فلسطين)
رأيك في الموضوع