رغم الانطباع الذي يحاول كيان يهود إرساءه في عقول المسلمين بأنه دولة عظمى وقوة جبارة، وظهر ذلك في خطاب نتنياهو في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وأيضاً عبر عمليات البيجر واغتيال قيادات حزب إيران وحماس، وكأنه قد اتخذ من عملية السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 ذريعة لانطلاقة ثالثة بعد عامي 1948 و1967 ولإعادة ترتيب المنطقة وفق اتفاقيات أبراهام وتلزيم دور أكبر لكيان يهود فيها. وقد بدا انقضاض كيان يهود على حزب إيران أشبه بنكبة عام 1967 عندما تبعثرت جيوش خمس دول عربية أمام سلاح الجو لكيان يهود!
إذا كانت هذه هي الصورة الأولية فهناك أمور تجب مراجعتها قبل اعتمادها، وهي:
أولاً: إن كيان يهود ورغم استغلاله لعملية طوفان الأقصى على النحو الذي ذكرناه إلا أنه ظهر على حقيقته في صبيحة ذلك اليوم عاجزاً ضعيفاً ليس من الصعب القضاء عليه، واحتاج للوقوف من جديد إلى رجلين من خشب تضافرت كل القوى الكبرى على صناعتها له، ولولا ذلك لما استطاع الصمود.
ثانياً: إن قرار اجتثاث حزب إيران أو ربما إعادة إنتاجه ليتكيف مع دور جديد له هو قرار دولي، تطلب أولاً ضوءاً أخضر من أمريكا. وثانياً توفير معلومات استخباراتية، لا يمكن أن تتوفر لاستخبارات يهود منفردة، بل لا بد أنها اعتمدت في تحصيلها على أجهزة دول كبرى ودول في المنطقة.
ثالثاً: إن القوى التي تعمل تحت شعار محور المقاومة هي مرتبطة بإيران وسوريا، وكلتاهما مرتبطتان بأمريكا، وبالتالي فإن تحركات هذه القوى تبقى مقيدة حتى ينتهي دورها فيقوم كيان يهود أداة الغرب بتصفيتها، وهذا ينطبق على الجماعات والقيادات، ولو كانت هذه القوى تعمل من عند أنفسها لما صبرت حتى يفاجئها كيان يهود في عقر دارها، فلا زالت حتى القوى غير النظامية إذا ما استثنينا فصائل المقاومة الفلسطينية مسيرة من قوى كبرى مباشرة أو بالوكالة تتحكم في كل ما يتعلق بمشاركتها بما سمي بجبهة الإسناد من حيث كم المشاركة ونوعها وأهدافها، وأن لكل قائد من قيادتها تاريخ صلاحية عندما يحين يسلَّم للذبح، ولم يسلم من هذه القاعدة حتى رئيسي وعبد اللهيان ومن قبلهما قاسم سليماني الذي استأذنت إيران أمريكا للرد على اغتياله بضربات بهلوانية، وأن القوى الكبرى وأخصّ أمريكا ومن خلال الحروب التي خاضها كيان يهود سابقاً مع الجيوش النظامية وحالياً مع حركات المقاومة كانت تمسك بالمتحكمين بتلك الجيوش وبحركات المقاومة بحيث تحتفظ دائماً لكيان يهود بالتفوق وأن تكون له اليد العليا، وعندما كانت تفلت الخيوط من يد هؤلاء كنا نشاهد كيان يهود على حقيقته. إذن فكيان يهود لم يخض أي حرب حقيقية مع أي جيش في المنطقة ولا أي قوة ممن تدعي الممانعة.
وإذا كان هذا هو الواقع العسكري فإن ما يحيطه من عملية تضليل سياسي وإعلامي لا يقل خطورة وتأثيراً عن الناحية العسكرية، حيث شكلت القوى الفاعلة في المشهد خاصة أمريكا ما يشبه الدوامة التي أحاطت بالعمليات العسكرية، وهذه الدوامة والتضليل يخدمان الأهداف العسكرية ويهدفان إلى كسب الوقت، وقد استخدمت لهذه الغاية وسائل مثل المفاوضات التي يحقق العدو من خلالها أهدافاً عدة منها جمع المعلومات عن الخصم، وإعداد خطط عسكرية وتنفيذها وأخذ الوقت اللازم لذلك، وامتصاص حماس الخصم، وفي حال رجحت كفة الخصم يسارع العدو إلى هدنة حقيقية كما حصل في ثورة الـ36 وفي حرب الـ48 حيث استفاد الإنجليز في الأولى ويهود في الثانية من الهدنة وأعادوا ترتيب صفوفهم وتجاوزوا هزيمة كانت محققة. وكذلك تستعمل المفاوضات كوسيلة من وسائل اختراق الخصم واستقطابه لصف الأعداء.
وأيضاً من وسائل التضليل التصريحات الإعلامية، سواء تعلقت بالجهد المبذول للتهدئة ووقف الحرب ورغبة أمريكا في ذلك مع أنها هي التي تدير الحرب من بدايتها وتتحكم في مسارها لتحقيق مصالحها وإعادة صياغة المنطقة، أو ما يتعلق بالخلافات سواء بين أمريكا وكيان يهود، أو بين بعض أقطاب حكومة يهود. ومثل هذا التضليل الإعلامي غايته التعمية على رأس الحربة في هذه الحرب وهي أمريكا، وإظهارها كطرف محايد ووسيط، والثاني حمل الخصم على تعليق آمال خادعة على خلافاتهم، والتي في غالبها مصطنعة. وكمثال واحد على ذلك ما أشيع قبل ضرب لبنان من وجود خلافات بين نتنياهو وغالانت وزير الحرب حول جبهة الشمال، ولما حصلت الضربة لم نر إلا أكمل الانسجام بينهما. وأمثلة التضليل لا تنتهي، ومنها إعلان ما تعرف بقوى المقاومة وإيران في أكثر من مناسبة أنها سترد على كيان يهود ثم تمر الأوقات ولا يحصل الرد فيكون الحديث عن الرد، ومن أعمال التضليل والتخدير ما دعا إليه أردوغان من تشكيل جهة من دول المنطقة لمجابهة كيان يهود،... وقائمة التضليل تطول.
وحتى لا نبقى في غيابت الجب الذي قذفنا فيه الأعداء، لا بد للقوى الحية في الأمة أن تتنبه إلى أن حقيقة العلاقات بين القوى الكبرى والدولة التابعة لها هي عمالة، أو الدولة التي تدور في فلكها وتخدمها في أهدافها السياسية، وأن تبادر إلى قطع الأواصر مع هذه الدول، وأن تقارب بين الممكن المتاح والواجب عملاً بسياسة النبي ﷺ في جميع غزواته حيث كان يوظف الإمكانات المتاحة للقيام بالواجب الذي تعين على المسلمين في وقت معين؛ ففي معظم غزواته ﷺ كان عدد جيش المسلمين أقل من عدوهم ومع ذلك ما كانوا يتأخرون عن القيام بالواجب، ما يبين لنا أن تذرع الدول العميلة والقوى المرتبطة بها بالصبر الاستراتيجي والتراجع التكتيكي، وما أصبحنا نسمعه على لسان كثير من قيادات المنطقة من إفشال مخطط كيان يهود في جرهم إلى المعركة، ما هو إلا للتغطية على العمالة وعلى كونهم أداة لا تتحرك إلا بأمر سيدهم، وإلا فإن المعركة عندما تفرض فإن الواجب هو تسخير الإمكانات المتاحة لخوضها واستخدام عنصر المباغتة والمفاجأة؛ لأن التراجع أمام معركة مفروضة هو خيانة وانتحار ولا يمكن اعتباره بأي حال من قبيل الدهاء السياسي، وللأسف مع أن هذا الأسلوب الدنيء استخدمته الأنظمة العميلة في مصر وسوريا وغيرهما إبان هزيمة الـ67 وفي أكثر من مناسبة وكانت تسوق بأن فشل العدو في تغيير النظام هو هزيمة وأما ضياع الأرض والعرض فتلك أمور ثانوية في نظر العملاء، ومع ذلك فقد عاد هذا الأسلوب للاستخدام بشكل كبير ما يوجب على المخلصين الواعين فضحه وبيان الموقف الشرعي الواجب على المسلمين والجيوش تجاه الموقف الذي تعيشه الأمة.
وإذا كان السير على الطريق الصحيح يتطلب بصيرة سياسية وإخلاصاً لله وتوكلاً عليه ووعياً شرعياً حتى تقطع الصلات مع الأعداء وتسخر الإمكانات للاضطلاع بالمهمات والواجبات حتى تعود الأمة إلى سابق عزها ومجدها كبيرة في عين أعدائها. ولا يكون ذلك إلا بتوحيد الجهود لنصرة الهدف الذي يعمل له حزب التحرير وهو استئناف الحياة الإسلامية بإقامة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة حتى لا تضيع الجهود وتهدر الدماء في حلقة مفرغة من مؤامرات مرسومة من الأعداء، وما ذلك على الله بعزيز.
بقلم: الأستاذ عبد الله محمد (أبو محمد) – ولاية الأردن
رأيك في الموضوع