أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية رسميا يوم 7 تموز/يوليو 2023 تزويد أوكرانيا بالذخائر العنقودية، ضمن حزمة جديدة من المساعدات العسكرية لدعم كييف والتي شارفت تكاليف هذا الدعم على 43 مليار دولار حتى الآن، بتدرج واضح في نوعية الأسلحة والذخائر المقدمة بما يخدم الأهداف الأمريكية المرجوة من هذا الغزو، والذي يتطلب زيادة أمد الحرب، وزيادة غرق روسيا في المستنقع الأوكراني الذي جرتها إليه أمريكا منذ البداية، في سعيها لإضعاف روسيا وكسر هيبتها كقوة عالمية ذات أثر، والعمل على إخضاعها لإرادتها لتكون طوع بنانها تنفذ ما تمليه عليها خدمة لمصالحها في مختلف دول العالم.
فبعد ظهور غباء روسيا في قبولها خدمة مصالح أمريكا في سوريا وغيرها من الدول الأفريقية، ارتأت أمريكا أن تجعلها الجندي الذي يحقق مصالحها دون أن تلوث يدها أو أن تتحمل نقمات الشعوب من تدخلها، هذا التدخل أشعر روسيا بأنها قوة قادرة على مزاحمة أمريكا، وانجرت إلى المستنقع الأوكراني المعد مسبقاً لإغراقها، كما أفاد الرئيس الأوكراني قبل بدء المعارك من أن أمريكا تدفع بنشوب هذه الحرب، وكان ظن الرئيس الروسي أن هذه المعركة ستستغرق عدة أيام تتم فيها الإطاحة بالنظام الأوكراني وتنصيب نظام تابع لروسيا. فاندفع وبغباء سياسي كبير وأعلن بدء الزحف الروسي نحو كييف، لتتكبد قواته في الأيام الأولى خسائر كبيرة في المعدات العسكرية والقوة البشرية، وليظهر ضعفها الواضح في كافة المجالات العسكرية من حيث الإعداد والتنظيم والدعم اللوجستي والاستخباراتي، ولتصطدم بالثبات الأوكراني والمهيأ مسبقاً من أمريكا.
وبفشل الهجوم الروسي انتقلت أمريكا ومعها الدول الأوروبية لزيادة إرسال المعدات العسكرية لأوكرانيا والتخطيط لهجوم أوكراني مضاد يجبر القوات الروسية على الانسحاب من المناطق التي احتلتها بما فيها القرم، وكانت كمية ونوعية الأسلحة المقدمة تتم وفق ما يخدم أهداف أمريكا، ويؤكد ذلك ما صرح به مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان في أيار الماضي بقوله: "نهجنا في توفير الأسلحة والعتاد والتدريب للأوكرانيين هو حسب مقتضيات الصراع".
فأمريكا سعت لضرب عصافير عدة بحجر واحد؛ أولها إضعاف روسيا وكسر هيبتها وجعلها طوع بنانها، وثانيها إبقاء هيمنة أمريكا على أوروبا وإنعاش حلف الناتو، ومنع الدول الأوروبية من الانعتاق من الهيمنة الأمريكية، فاندفعت الدول الأوروبية مجبرة على تزويد أوكرانيا بالمعدات والذخائر العسكرية وزيادة ميزانياتها العسكرية وفق الرغبة الأمريكية، وثالث هذه العصافير إرعاب الصين من أي عمل متهور تجاه تايوان، والاستمرار في احتوائها، ومنع أي تطلع للصين لتزاحم أمريكا على المدى المتوسط والبعيد. فأمريكا لا يهمها حجم الدمار ولا سفك الدماء ما دام استمرار المعارك يخدم مخططاتها ويتماشى مع أهدافها.
ومع زيادة ظهور ضعف روسيا وغرقها أكثر وأكثر، والذي كان واضحاً من التمرد الذي قاده زعيم مجموعة فاغنر، ومع وصول الطائرات المسيرة الأوكرانية لمحيط الكرملين، نقلت أمريكا أوكرانيا من حالة الدفاع إلى حالة الهجوم المضاد ضد القوات الروسية لكسر ما بقي لها من هيبة، إلا أن هجوم أوكرانيا المضاد لم يجر كما يشتهي المخططون الغربيون، فكان بطيئاً جداً ولم يظهر أي تقدم لأوكرانيا، واستنفد معظم معداتها وذخائرها، ما دفع بالرئيس الأمريكي للإعلان عن استمرار التزام أمريكا بدعم أوكرانيا وتزويدها بالقنابل العنقودية، بعد تزويدها بالعديد من الأسلحة الغربية كالصواريخ والمسيرات والمدافع والدبابات، كدبابات ليوبارد الألمانية، مع ما يرافق ذلك من تهويل إعلامي كبير والإيحاء بأن هذه المعدات ستقلب الأحداث.
وبالنظر إلى القنابل العنقودية نجد أنها ليست من الأسلحة الاستراتيجية التي يمكن أن تقلب الأحداث، فهي عبارة عن قنابل صغيرة يصل عددها تقريبا إلى 600، توجد في حاوية أو صواريخ تفتح بالهواء بعد الإطلاق، لتنتشر على مساحة واسعة، وهي غير دقيقة وتصل نسبة ما لا ينفجر منها إلى حوالي 40%، ما يشكل خطراً بالغاً على المدنيين؛ لأنها تنفجر لاحقاً بمجرد لمسها أو تحريكها، والغاية من ذلك تعطيل أي تقدم روسي محتمل نحو أوكرانيا بعد ظهور البطء وشبه الفشل بالهجوم الأوكراني المضاد. ولقد تم اختيار هذا النوع من القنابل مع وجود عدد كبير من الدول تمنع استخدامه وفق اتفاق أوسلو 2008 والموقع من 120 دولة، لتكدس المخازن الأمريكية بها منذ غزو أمريكا لأفغانستان والعراق، فهي من جهة تتخلص من هذا المخزون القديم وتنعش مصانع السلاح في أمريكا، ومن جهة أخرى تعمل على إطالة أمد المعارك تنفيذاً لما خططت له مسبقاً دون اعتبار لبشر أو حجر، ودون اعتبار لما قد ينتج عن هذه الأسلحة من تلوثات إشعاعية ما دام أن المتضرر هي روسيا أو أوكرانيا أو حتى بعض الدول الأوروبية.
إن أمريكا مستمرة في تحقيق أهدافها المرسومة لهذه الحرب واستمرارها، يساعدها على ذلك ضعف وخوف روسيا من استخدام أسلحة متقدمة نحو أوكرانيا قد يدفع إلى دخولها في مواجهة مباشرة مع حلف الناتو لا تقوى على الصمود أمامه، وكذلك الضعف والخوف الأوروبي من أي تقدم لروسيا نحو الغرب، ما يبقي دوله بحاجة للمظلة الأمريكية.
هذه هي أمريكا وهذا هو النظام الرأسمالي؛ القوي فيه يأكل الضعيف، يَصدُقُ فيهم قولُ الله تعالى: ﴿تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى﴾. وسيبقى العالم يكتوي بنار ظلمهم حتى يأذن الله بإقامة الخلافة الثانية على منهاج النبوة التي بدأت خيوط فجرها تبدد ظلمة الرأسمالية الفاسدة وجورها، وما ذلك على الله بعزيز.
بقلم: د. عبد الله ناصر – ولاية الأردن
رأيك في الموضوع