وبعد هذا الاستعراض لهذه الأحلاف والتكتلات الاقتصادية نرى أن العالم برمته يتجه نحو اتجاهات جديدة خارج نطاق المنظومة الدولية والقوانين التي تجمعها، خاصة أن هذه التحالفات لها قوانينها المستقلة، ولها توجهاتها وأهدافها. فتكتلات أمريكا التي أنشأتها في أوكوس وكواد تهدف إلى محاصرة الصين عسكريا، ووضعها أمام دول متعددة في المواجهة العسكرية في حال حصولها، وإدخال دول جديدة في منظمة حلف الأطلسي على حدود روسيا أيضا هي أعمال مقصودة تقوم بها أمريكا لتسخير هذا الحلف في محاصرة روسيا عسكريا؛ بعد أن كان حلف الأطلسي شبه ميت لا قيمة له.
لقد اتجهت أمريكا إلى سياسة جديدة في تسخير العالم، بدل الهيئات الدولية؛ لأن الهيئات الدولية لم تعد نافعة، ولا قادرة بالنسبة لها على تحقيق أهدافها الاستعمارية، خاصة أنها ترتبط بقوانين قديمة تمكّن روسيا والصين من تحجيم قراراتها في مجلس الأمن الدولي. وهذه التحالفات والتكتلات الدولية باتت تشكل خطورة فعلية على العالم أكثر من أي وقت مضى، وهي تشبه إلى حد بعيد الفترة التي سبقت الحربين العالميتين الأولى والثانية، كما صرح كيسنجر قبل أشهر، حيث قال في 20/5/2023 لمجلة ذي إيكونوميست الإنجليزية: "إن العالم يتجه إلى حرب عالمية جديدة بسبب التحالفات، وإن الأجواء شبيهة بالأجواء التي سادت قبل الحرب العالمية الأولى". وتصريحات كيسنجر لها دلالات وشواهد في الواقع، وليس أدل على ذلك من هذه الحرب المستعرة والمتسعة يوما بعد يوم؛ لدرجة أنها باتت تهدد بدخول دول أخرى غير روسيا وأوكرانيا فيها.
إن الذي جمع العالم على القوانين الدولية في هيئة الأمم المتحدة هي المصلحة المشتركة لها؛ خاصة أنها كانت خارجة من حروب طاحنة وبحاجة إلى أموال وإصلاحات وغير ذلك. وقد دخل في هذه المنظومة الفرقاء والأعداء؛ رغم اختلاف الأهداف والتوجهات، وكل ذلك من أجل المصلحة التي يمليها المبدأ البراغماتي الغربي. وإن الذي يفرق العالم كذلك، ويدخله في صراعات وعداوات جديدة هي أيضا المصلحة وليس المبدئية لأن المبدئية، حسب زعمهم، تقوم على الديمقراطية، واحترام توجهات الشعوب في الاختيار، وعدم فرض القوانين بقوة السلاح أو الضغوطات. وهذا لا يوجد في أرض الواقع في جميع المناطق التي تشهد منافسات وصراعات.
إن العالم اليوم يقف على شفير الهاوية بسبب هذه التكتلات العسكرية والاقتصادية؛ لأنها تقوم على فكرة العداء والتنافس وليس التعاون والإخاء، ولا النظرة لمصلحة الشعوب. وكما ذكرنا فإن العالم يمر في مرحلة، كما قال كيسنجر، شبيهة بالفترة التي سبقت الحرب العالمية. وبالتالي فإن ما ينتظر العالم هو الدمار والفقر والنزاعات المتعددة. وهذا يقودنا إلى الحقيقة المهمة وهي حاجة العالم اليوم إلى منقذ ينقذه من هذه الشرور الحاصلة، أو التي ستحصل في القريب، وتجر العالم إلى ما لا تحمد عقباه من المنافع والمصالح الهابطة.
وهذا الأمر يحتاج إلى دولة قوية مؤثرة في العالم تستطيع أن تجمع الدول حول قانونها الصحيح بدل هذه القوانين المنحرفة. فأولى الخطوات هي هدم هذا القانون الدولي الذي قام على أساس الفساد والحروب المدمرة. والخطوة الثانية هي الوقوف في وجه التكتلات والتحالفات العسكرية، وإبطال فكرتها تماما كما أبطلت فكرة المقاطعة الظالمة في مكة المكرمة ضد الرسول ﷺ. والأمر الثالث هو إنقاذ العالم اقتصاديا من جور أمريكا وهيمنة الدولار، عن طريق نظام عالمي جديد؛ يحقق الاستقرار والعدل، وهذا لا يكون إلا بالرجوع إلى النظام النقدي الذهبي. وأما الأمر الأخير فهو فرض قوانين ربانية بدل هذه القوانين التي جعلت من الإنسان حيوانا في كل شيء؛ في العلاقات الشخصية والاجتماعية والعلاقات بين الذكر والأنثى، أو بين الذكور، وأباحت أمورا لم تعرف إلا في الأقوام المنحرفة مثل قوم لوط عليه السلام.
إن هذه الأمور جميعا لا تتحقق، ولا يمكن إيجادها إلا في ظل دولة تطبق النور الإلهي. فقد طبق هذا النظام بالفعل خلال فترة امتدت لأكثر من ألف عام على وجه البسيطة، وكان العدل والأمن والرفاه يعم وجه الأرض، وطبقت القوانين الربانية؛ فمدحها حتى أعداؤها كما حصل من نصارى الشام عندما بعثوا برسالة إلى أبي عبيدة وجاء فيها: "لأنتم أحب إلينا من الروم وهم على ديننا، فقد أخذوا أموالنا وجلدوا ظهورنا".
وقالت المستشرقة الألمانية زغريد هونكة في كتابها الشهير "شمس العرب تسطع على الغرب": "لقد ظل الغرب بعيدا عن التقدم والحضارة طوال الفترة التي فصل فيها نفسه عن المسلمين، ولم يبدأ التقدم عند الغرب إلا بعد الاتصال بالمسلمين عن طريق الأندلس". وهناك الكثير من الأقوال التي وثقها المنصفون في وصف الإسلام وحضارته.
وفي الختام نقول: إن ما يجري في العالم اليوم من تنافس وصراعات تتجدد وتتطور، وتتسع يوما بعد يوم لَيقودُ العالم إلى الدمار والخراب، وسوف يدفع البشرية للبحث عن مخلّص حقيقي، يخلصها مما هي فيه؛ تماما كما بحثت في الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالعالم سنة 2008 وجعلت الكثير من المفكرين يقرّون بالحقيقة؛ بأن الإسلام ونظامه الاقتصادي هو المخلص للعالم. وهذا دافع لأمة الإسلام للإسراع والعمل الحثيث من أجل تطبيق هذا المنهج الرباني السامي لهداية البشر وإنقاذهم وتحقيق قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً﴾.
رأيك في الموضوع