انعقدت قمة الناتو في ليتوانيا، الثلاثاء 11/7/2023م في ظرف خاص وتحت وقع الحرب الأوكرانية الروسية واشتداد التجاذب بين أمريكا والصين، وعلى جدول أعمال القمة طلب انضمام السويد وأوكرانيا إلى الحلف، أي توسعة قاعدته، والتأكيد على أعضاء الحلف برفع مساهماتهم للحلف بنسبة ٢٪ من الناتج المحلي للدول المنتسبة لحلف الناتو كحد أدنى، وإذا علمنا أن عدد أعضاء الحلف قبل انضمام السويد له ٣١ عضواً، ثلاثون منها أوروبية وأمريكا، ندرك تماماً ماذا تعني نسبة ٢٪ التي تقدر بمئات المليارات التي ستدفعها أوروبا لهذا الحلف الضخم الذي جُل تسليحه وخبرائه من أمريكا، وقواعد هذا الحلف المنتشرة على الأراضي الأوروبية.
إن الناظر لهذه القمة يجد أنها تأتي في ظروف استثنائية وهي حرب ضروس تدور في أوروبا وعلى حدودها بين روسيا وأوكرانيا والتي تلزم الحلف وأعضاءه المساهمة في دعم أوكرانيا بكل طاقتهم والانشغال بهذه الحرب التي تعد حرباً على أوروبا بالمقام الأول. إن بقاء حلف الناتو حتى هذه اللحظة أمر متقصد في السياسة الأمريكية إذ إن وجوده يدلل على أن مشروع مارشال لا زال حياً لم يمت وهو إبقاء أوروبا تحت نظر وسمع أمريكا لما تشكله من خطر على المصالح الأمريكية ولما لهذه الشعوب من التوق لماضيها الاستعماري الذي فقدت بريقه، وتراجعها أمام الزحف الأمريكي على مستعمراتها وقضمها واحدة تلو الأخرى، لذلك بقي هذا الحلف جاثماً على صدر أوروبا يحبس أنفاسها ويمنعها من الانعتاق من ربقة أمريكا، وهي التي حاولت مراراً وتكراراً تشكيل قوة أوروبية خاصة لها بقيادة ألمانيا وفرنسا وهو ما أفشلته أمريكا دوماً. وهذه الحرب التي تدور الآن يعتبر أحد أهدافها أن تتحول مساهمات أوروبا لهذا المجهود الحربي ولحلف الناتو بقيادة أمريكا ما يجعله مستنزفاً لمقدرات أوروبا وروسيا معاً.
ثم إن من سياسة أمريكا الخارجية وإحدى ركائز هذه السياسة هو عزل الصين عن روسيا وعدم السماح بالتقائهما ما يهدد مصالح أمريكا ويجعل منهما منافساً قويا على المسرح الدولي لما تملكه الصين من قوة اقتصادية وصناعية تعتبر في كثير من جوانبها الأكبر عالمياً، والثاني في الاقتصاد العالمي، وسوقاً ضخماً لا مثيل له تحتاجه الأسواق والصناعات العالمية بل وتتنافس عليه الدول الاقتصادية والصناعية العشرين، ولذلك كان من أساسيات السياسة الخارجية الأمريكية أن لا يلتقي الدب الروسي مع التنين الصيني، وما سلسلة العقوبات الغربية المتوالية هندسياً على روسيا إلا من أجل جعل الصين بعيدة كل البعد عن روسيا وعدم دعمها لروسيا في حربها التي تخوضها، وهو فعلاً ما جعلها تفكر ألف مرة في أن تخطو باتجاه مساعدة روسيا في حربها كما يفعل الأوروبيون والأمريكان الذين فتحوا كل مخازن السلاح لديهم وصناديقهم المقفلة لدعم أوكرانيا بحيث أُفرغت هذه المخازن وبدأت هذه الدول تشكو من نفاد ذخائرها، وهذا ما يجعل المصانع الأمريكية وشركاتها الصناعية تفتح أبوابها لبيع الأسلحة التي لم تعد تستعمل أو التي وضعت على قائمة الأسلحة المشطوبة.
إن أمريكا بيدها مفاتيح إنهاء هذه الحرب وهي التي تقف في وجه أي حل يمكن أن تصل إليه الأطراف أو تطرحه الدول الوسيطة، وهي العقبة الكأداء حيث لا تريد لهذه الحرب أن تتوقف، فهي تحقق أهدافاً كانت ترجو وتتمنى أن تحصل، وهو ما وقع، لذلك هي تتشبث بهذه الحرب، فهي:
أولاً: تستنزف روسيا حتى لا تقوى أن تقف على قدميها وتذعن لمطالبها، ومع ذلك فهي، أي أمريكا، لا تريد سقوط روسيا وبالتالي تفككها لما لذلك من آثار مدمرة على الاستقرار العالمي.
ثانيا: تجعل أوروبا وروسيا في حربٍ فعلية لا يمكنهما الالتقاء ثانية والتعاون المشترك، وإنهاء مشاريع الغاز التي كانت تغذي أوروبا وللأبد، واعتماد أوروبا عليها بإمدادها بالغاز والطاقة مباشرة أو عن طريق عملائها في الشرق الأوسط وبذلك تحكم قبضتها على أوروبا المتفلتة.
ثالثاً: جعل أوروبا مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بحلف الناتو واعتباره سفينة النجاة والحامي لحدودها ومصالحها، وبالتالي عليها أن تدفع له، بعد أن كانت فرنسا تقول عنه إنه في غرفة الإنعاش أو في حكم الميت، ثم ها هي دول أوروبا تتقاطر للانتساب له والاحتماء به واعتباره سفينة النجاة والملاذ الآمن الأخير بعدما جرت أمريكا رِجل روسيا لدخول أوكرانيا ومحاولة احتلالها.
رابعاً: إشغال روسيا بهذه الحرب للتفرغ للخطر الأكبر على مصالحها وهي الصين، والتي بدأت تشكل الأحلاف حولها، وتسمح للدول أن تتحرر من بعض قيود الحرب العالمية الثانية كاليابان وألمانيا بحيث تستطيع هذه الدول الخروج في الحدود المسموح بها ما يثير فيها شيئا من العظمة الذاتية.
وختاماً: إن انعقاد القمة تحت وقع هذه الحرب يجعل أمريكا تضغط وتحقق الأهداف المرجوة وهو الدعم السخي والارتباط الوثيق بهذا الحلف وإعادة الحياة إليه بعدما فَقَد سبب وجوده، وامتناع أغلب أعضائه عن المساهمة السخية بل ومعارضة ذلك في العقد المنصرم عن الدفع والمساهمة، ثم كما هو معلوم أن ثماني دول من دول الحلف الـ٣١ هم فقط الذين حققوا نسبة الـ٢٪ التي طلبتها أمريكا زمن ترامب ولكن الآن نجد أن التفاعل من أعضاء الحلف للوفاء بذلك أصبح قوياً ويكاد أن يكون مطلباً أوروبياً!
بقلم: الأستاذ سالم أبو سبيتان (أبو صهيب)
رأيك في الموضوع