تلقى أردوغان وحزبه صفعة أليمة في الانتخابات العامة التركية التي جرت يوم 7/6/2015، ولم يكن يتوقعها أبدا حيث أطبق فاهُ عند ظهور النتائج، بينما كان أثناء حملة الانتخابات لا أحد يستطيع أن يسكته رغم الانتقادات له، لأنه رئيس جمهورية يمثل البلاد كلها لا يصح له أن يعمل دعاية لحزب معين حسب النظام التركي، فكان ينزل إلى الميادين ويخطب ويحض الناس على التصويت لحزبه بأشكال مختلفة ويدعو إلى تعديل الدستور وإقامة النظام الرئاسي. فكانت النتائج مخيبة لآماله عندما حصل على 258 مقعدا من أصل 550 عدد مقاعد البرلمان الكاملة بنسبة 40,87 %، في حين أنه كان قد حصل في انتخابات عام 2011 على 327 مقعدا بنسبة 49,80 %. وكان يأمل أن يحصل على 330 مقعدا على الأقل ليتمكن من الدعوة إلى إجراء استفتاء شعبي على تعديلات دستورية للتحول إلى نظام رئاسي يمنحه كرئيس للجمهورية صلاحيات واسعة، ويحد من صلاحيات رئيس الوزراء على غرار النظام الرئاسي الفرنسي. ولذلك قال رئيس الوزراء أحمد داود أوغلو للتلفزيون التركي يوم 11/6/2015: "أردنا التحول إلى النظام الرئاسي، ولكن الشعب لم يمنحنا تلك الصلاحية".
وفي الوقت نفسه خسر الأغلبية المطلقة التي تمكنه من تشكيل حكومةٍ وحده، فيضطر الآن إلى تشكيل حكومة مع أحزاب أخرى، أو يضطر إلى تشكيل حكومة أقلية. ففي كلتا الحالتين سيكون موقف حزب العدالة والتنمية ضعيفا لأنه سيضطر دائما إلى أخذ موافقة الأحزاب التي ستدخل معه في الائتلاف أو تدعمه من خارج الحكومة إذا ما شكل حكومة أقلية.
وهذا الوضع يهدد بعودة عدم الاستقرار السياسي كما كان يحصل في الحكومات الائتلافية السابقة والتي كانت تعرقل اتخاذ القرارات المهمة ويبدأ كل حزب بالشد لطرفه لقدرته على التأثير في الحكومة مما يؤدي إلى حدوث الاضطرابات الأمنية والسياسية والاقتصادية، ومثل هذا الوضع أدى إلى حصول انقلاب عسكري عام 1980.
وقد برز حزب الشعوب الديمقراطي الذي أسس حديثا وخاض الانتخابات العامة لأول مرة بحصوله على 80 مقعدا بنسبة 13,12 % وهو يمثل أصوات الأكراد. فكان ذلك على حساب حزب العدالة والتنمية الذي خسر نسبة كبيرة من هذه الأصوات التي كانت ستصب في خانته. ويظهر أن حزب العدالة والتنمية قام بقياس الوضع الحالي على وضع عام 2011 حيث حصل المستقلون على 35 مقعدا بنسبة 6,59% وهم الذين شكلوا حزب الشعوب الديمقراطي. فظن أردوغان وحزبه أن ذلك الحزب لن يحصل على نسبة 10% والتي تخوله من دخول البرلمان فيبقى على نسبة المستقلين السابقة، وبالتالي يحصل حزب أردوغان على أكثرية تلك الأصوات حسب قانون الانتخابات حيث تذهب أصوات الخاسر للحزب الذي حصل على أصوات أكثر في تلك الدائرة كما هو مطبق في أمريكا. ولذلك صرح نائب رئيس الوزراء بولند أرنج يوم 13/6/2015: "لو لم يتخط حزب الشعوب الديمقراطي حاجز 10% لحصل حزب العدالة والتنمية على 311 مقعدا ولاستطاع تشكيل الحكومة. فإن بعض تصريحاتنا لم تلق قبولا لدى الناس أو لم تكن إيجابية كما ينبغي، بل أستطيع أن أقول أنها قوبلت لديهم بسلبية".
فقد غرَّ أردوغان فوزُ حزبه العام الماضي في الانتخابات المحلية بنسبة 45,6% وبرئاسة الجمهورية بنسبة 51,79% فشعر أنه ما زال في حالة تصاعد حيث تقدم في كل دورة انتخابات محلية أو عامة عن التي سبقتها منذ أن وصل إلى الحكم عام 2002. فلم يدرس الأوضاع الحالية جيدا ولم يقدر الأمور بنظرة ثاقبة، ولم يحسن التصرف فأصابه الغرور بالنجاحات السابقة. مع العلم أن التذمر والامتعاض قد بدأ يظهر لدى الناس بسبب سياساته وتصرفاته وتصريحاته، حيث كانت تنم عن الاستهتار والاستهانة بالآخرين، وقد أظهرت كافة وسائل الاستطلاع قبل إجراء الانتخابات تراجعا ملحوظا في نسبة أصوات الحزب، ولكنها لم تتوقع هذه النتيجة المخيبة للآمال وللاستطلاعات، بل كانت تتوقع على أسوأ تقدير أن يحصل على 290 مقعدا ليحقق أغلبية مطلقة تمكنه من تشكيل حكومة بمفرده.
أضف إلى ذلك فإن الوضع الاقتصادي قد بدأ يسوء، فقد سجلت تركيا تراجعا في النمو الاقتصادي حيث تدنت نسبته إلى 2,7 % في نهاية عام 2014 بينما كانت حوالي 4% في السنة التي سبقتها وحوالي 5% في سنة 2013 وما قبلها كانت أعلى. وارتفعت الأسعار وزادت مديونية البلاد والعباد؛ حيث إن الأفراد أصبحوا يستدينون بشكل متزايد بواسطة بطاقات الائتمان الربوية وأكثرها للبنوك الخارجية ويعجزون عن سدادها مما يعرضهم لفقدان ما حصلوا عليه من ممتلكات كما حدث في أمريكا عقب تفجر الأزمة المالية.
والأكراد وقد أثيرت لديهم المشاعر القومية حيث صوت كثير منهم لحزب الشعوب الديمقراطي الذي يمثل حزب العمال الكردستاني سياسيا ويسير بدعم من عبد الله أوجلان. فهو حزب يسير في الخط الأمريكي ويؤيد مشاريع أمريكا التي طرحها أردوغان في حل المشكلة الكردية. ونجاح هذا الحزب في الانتخابات يجعل الأكراد يقبلون بالحل السياسي وبالمشروع الأمريكي ويجعلهم يندمجون في الحياة السياسية التركية ويجعلهم يأملون أنهم سيحققون عن طريق اللعبة الديمقراطية ودخول البرلمان أهدافهم، فمن هذه الناحية فإن نجاح حزب الشعوب الديمقراطي فيه فائدة للدولة التركية. فذلك يشل العمل العسكري الذي ما زال يتشبث به الجناح الإنجليزي في حزب العمال الكردستاني الذي يرأسه مراد قره يلان والذي يستحكم هو وعناصره المسلحة في جبل قنديل بشمال العراق مع الحدود التركية. وقد حاول أكثر من مرة أن يفسد اتفاق أوجلان مع الحكومة التركية بوقف إطلاق النار وانسحاب عناصر الحزب المسلحة من تركيا إلى خارجها. وقد دعا أوجلان في شهر آذار الماضي عناصر حزبه إلى عقد مؤتمر للتخلي عن السلاح نهائيا، وقد أعلن أيضا قبل انتخابات رئاسة الجمهورية العام الماضي تأييده لأردوغان وترشحه لرئاسة الجمهورية ولحله للمشكلة الكردية.
وقد حقق حزب الحركة القومية تقدما في الانتخابات الأخيرة حيث حصل على 80 مقعدا بنسبة 16,29% عن سابقتها عام 2011 التي حصل فيها على 53 مقعدا بنسبة 13,2%، وحصل حزب السعادة على نسبة أعلى 2,06 % عن سابقتها 1,26% بزيادة نصف مليون صوت وهذه كانت محسوبة من أصوات حزب العدالة والتنمية الذي نقصت أصواته حوالي ثلاثة ملايين صوتا مما جعل نسبته تتدنى ومقاعده تتناقص.
وحسب الدستور التركي فإن رئيس الجمهورية يطلب من رئيس الحزب الفائز بأكثر الأصوات تشكيل حكومة جديدة، وتكون الفترة الممنوحة لتشكيلها 45 يوما فإذا لم يتمكن من ذلك يطلب من رئيس الحزب الثاني تشكيلها، وإذا لم يتحقق ذلك يدعو إلى انتخابات مبكرة، وهذا احتمال ليس مستبعدا، فقد صرّح أردوغان يوم 13/6/2015 قائلا: "فإذا سار كل شيء بشكل طبيعي وشكلت حكومة ائتلافية... وإذا لم يحصل ذلك فسوف نعود إلى صناديق الاقتراع مرة أخرى بموجب الدستور.. لا أتصور بقاء بلدنا بدون حكومة، فلا أريد وقف الاستثمارات لبلادنا ولا أن تستمر حالة الغموض حتى لا تتعرض علاقاتها الدولية للانقطاع". وهو يأمل بتلافي الخسارة التي مني بها، وسوف يعيد النظر في تصرفاته وأساليبه ودعوته لإقامة النظام الرئاسي. وفي الوقت نفسه سيعمل حزبه على تشكيل حكومة مع حزب الحركة القومية إذا تخلى الأخير عن بعض شروطه أو تناساها. فهذان الحزبان من ناحية سياسية يسيران في الخط الأمريكي وإن كانا يختلفان في أسلوب الخطاب. ولكن حزب الحركة القومية يصبح في حالة حرجة أمام مؤيديه إذا تخلى عن بعض شروطه، وإذا ما قرر ذلك، فسيعمل على خداعهم بأنه لم يتخل عنها وإنما أجلها وأن استقرار البلاد أهم من ذلك، وأنه سوف يعمل على تحقيقها من خلال الائتلاف.
إن خسارة أردوغان خير للإسلام والمسلمين، فقد افتتن البعض به وبنجاحه وتوهموا بأن الإسلام سيأتي عن طريق الديمقراطية بالتدريج والخطوات التي يخطوها أردوغان تمهد لإقامة الخلافة، والآن سيبدأ البعض يفكر في أن ذلك غير ممكن، فنجم أردوغان وحزبه بدأ بالأفول، فبدأ بالعد التنازلي نحو السقوط كباقي الأحزاب التي أمل بها المسلمون منذ بداية خمسينات القرن الماضي ووصلت إلى الحكم بأغلبية ساحقة أو مطلقة من حزب مندريس الديمقراطي إلى حزب العدالة برئاسة ديمريل إلى حزب الوطن الأم برئاسة أوزال إلى حزب الرفاه بزعامة أربكان فكل هذه الأحزاب أفلت وضمرت إلى أبعد الحدود أو زالت من الوجود. مع العلم أنه مضى على وجود أردوغان في الحكم 13 عامًا محافظًا على النظام الجمهوري العلماني الديمقراطي الذي أقامه الغرب المستعمر بواسطة مصطفى كمال بعدما هدم الخلافة، وقد حارب حملة الدعوة الإسلامية والساعين لإقامة الخلافة من جديد وحكم على المئات منهم خلال فترة حكمه بأحكام سجن مختلفة. وهذا الوضع سيعزز بمشيئة الله موقف الساعين لإقامة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة ويجعل كثيرا من الناس العقلاء يلتفون حولهم وسيقولون يكفينا تجارب لمدة خمس وستين سنة وقد خدعونا بالديمقراطية لإطالة عمر النظام الديمقراطي العلماني ولنعد إلى طريق رسول الله r ونعمل مع العاملين العقديين المخلصين السائرين في هذه الطريق ولم ينحرفوا ولم يبدلوا ولم يتوهموا بنجاحات تلك الأحزاب التي تنتفخ كالبالون ومنذ تنفس أو تنفجر فلا يبقى لها وجود يذكر إلا في بعض المزقات.
رأيك في الموضوع