يقول الحق تبارك وتعالى: ﴿الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُواْ الصَّلَاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾. قال الضحاك: هو شرط شرطه الله عز وجل على من آتاه الملك. وقال ابن عاشور: فأما إقامة الصلاة فلدلالتها على القيام بالدّين وتجديد لمفعوله في النفوس، وأما إيتاء الزكاة فهو ليكون أفراد الأمة متقاربين في نظام معاشهم، وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلتنفيذ قوانين الإسلام بين سائر الأمة من تلقاء أنفسهم. وقال الصباح بن سوادة الكندي: سمعت عمر بن عبد العزيز يخطب وهو يقول: "﴿الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ الآية، ثم قال: ألا إنها ليست على الوالي وحده، ولكنها على الوالي والمولى عليه، ألا أنبئكم بما لكم على الوالي من ذلكم، وبما للوالي عليكم منه؟ إن لكم على الوالي من ذلكم أن يؤاخذكم بحقوق الله عليكم، وأن يأخذ لبعضكم من بعض، وأن يهديكم للتي هي أقوم ما استطاع، وإن عليكم من ذلك الطاعة غير المبزوزة ولا المستكرهة، ولا المخالف سرها علانيتها".
هذا ولم يبوب الفقهاء على مر العصور والآوان باباً في مؤلفاتهم يبين طريقة إقامة الدولة الإسلامية، كونهم نشأوا في ظلها قائمة قوية ومستقرة، ولم يخطر ببال أحدهم أنها ستهدم في يوم من الأيام. ولكن الذي حصل أنها هدمت بعد ثلاثة عشر قرنا من إقامتها على إثر الحرب العالمية الأولى قبل مائة عام ونيف. وبعد هدمها مباشرة ضج كثير من العلماء مستنكرين هدمها، كشيخ الإسلام مصطفى صبري في إسطنبول، وبعض علماء جامعة ديوبوند في الهند، ورثاها الشعراء كأحمد شوقي، فتصدى لهم مصطفى كمال وزمرته بمعاونة الإنجليز وكبتوا أصواتهم، ونفوهم رحمهم الله أجمعين. وأما من جاء بعدهم من علماء وأحزاب وجماعات وحركات إسلامية ومفكرين إسلاميين، فقد انشغلوا بتداعيات هدمها من خلال الإصلاح وليس التغيير. ولم يقم أحد من الذين عندهم القدرة على الاجتهاد، ببيان طريقة إقامة دولة الإسلام وفق التأصيل الشرعي المنضبط إلا العالم الجليل الشيخ تقي الدين النبهاني رحمه الله، الذي أسس حزب التحرير ليكون الرائد الذي لا يكذب أهله، والكتلة التي تسير على النهج نفسه الذي سار عليه الرسول ﷺ وكتلة الصحابة الكرام رضي الله عنهم أجمعين.
إن طريقة إقامة الدولة الإسلامية هي أحكام شرعية آخذ بعضها برقاب بعض، منذ نزل قوله تعالى إقرأ، ومرورا بقوله عز وجل أنذر، ثم كبر، ثم طهر، ثم اخفض، ثم اهجر، ثم اصبر، ثم رتل، ثم اذكر، ثم تبتل، ثم توكل، ثم اصدع، ثم أعرض، ثم احكم، ثم تول، ثم ذكّر...، ثم (هاجر) وهو الأمر بالهجرة، ويمكن تلخيصها على النحو الآتي:
- تشكيل كتلة سياسية على أساس الإسلام وفق قوله تعالى: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، على غرار كتلة الصحابة التي تشكلت حول رسول الله ﷺ في مكة بعد بدء نزول الوحي، واستمرت في العمل حتى جاء الإذن بالهجرة إلى المدينة وفق ما نصت عليه بنود بيعة العقبة الثانية بين الكتلة والأنصار.
- تثقيف أعضائها تثقيفا مركزا، وتكوين أشخاصهم تكوينا إسلاميا من الناحيتين العقلية والنفسية، كي يتمكنوا من القيام بأعباء الدعوة الإسلامية، وذلك بالعمل في المجتمع بغرض إيجاد الرأي العام المنبثق عن الوعي العام على أفكار الإسلام الأساسية، وما يصاحب هذا العمل من تفاعلات سلبية وإيجابية من الحكام والساسة والنخب والعلماء والعامة. ثم إضافة أعمال طلب النصرة من أهل القوة والمنعة كي تلتحم الدعوة مع المنعة فيطاح بالحكام ويبايع أمير المؤمنين الأول في الزمان الثاني كما بويع أبو بكر كأول خليفة لرسول الله ﷺ في الزمان الأول.
- بعد إقامة الدولة، يتولى الخليفة تطبيق الإسلام في الداخل وحمله إلى الخارج عن طريق الجهاد في سبيل الله، بكامل طاقات الأمة، ويتحول عمل الكتلة التي عملت لإقامتها إلى مجال آخر وفق متطلبات المرحلة.
يقول الأستاذ أحمد المحمود في كتابه، الدعوة إلى الإسلام بتصرف يسير: "لذا فإنه يجب علينا أن نعلم أن طريق الرسول ﷺ هي أحكام شرعية حددها له الوحي، ولم يخرج عنها قيد شعرة، ونحن كذلك يجب علينا أن لا نخرج عنها قيد شعرة. وكل ما يتغير هو الوسائل والأشكال والأساليب، فهي مما يقتضيه تنفيذ الحكم الشرعي، وهي متروكة لنا كما كانت متروكة للرسول ﷺ. وإنّ إقامة دار الإسلام هي حكم شرعي...، ومخالفتها وعدم الإتيان بها يعتبر مخالفة شرعية، فنحن في الطريق غير مخيرين، فالشرع قد حدد الغاية لنا، وحدد لنا طريق بلوغها. ولا خيار لنا في ذلك سوى الطاعة. ومن هنا فإنه ليس هناك مكانة في تحديد خطوات الطريق إلا للنص الشرعي (قرآن وسنة). ولا نترك للعقل أو للظروف أو للمصلحة أي اعتبار في تحديد أية خطوة. والنص الشرعي يفهم بحسب مدلوله اللفظي وليس بحسب أهواء الناس وميولهم، بل الميل يتبع الشرع ونحن ملزمون بما يرضي الله سبحانه وتعالى. وعليه فإن علينا أن نفهم طريقة الرسول ﷺ ونلتزمها تماماً كما سار عليها، ونحدد مراحل عمله والأعمال التي تمت في كل مرحلة". أهـ
وبناءً عليه، فإن الفترة التي كان الرسول ﷺ فيها في مكة (هي النص الشرعي الذي يفهم ويجتهد فيه) ويجب أن يجري التأسي لإقامة دار الإسلام، وليتحقق وعد الله للمؤمنين العاملين للصالحات المحددات المعينات المفضيات إلى الاستخلاف والتمكين والأمن في ظل خلافة راشدة ثانية على منهاج النبوة، قال تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً، يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً، وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾.
فاللهم اجعلنا من شهودها وجنودها ومن العاملين الجادين المخلصين لإقامتها، واجعل ذلك اليوم قريبا يا أكرم الأكرمين.
رأيك في الموضوع