أقام الرسول ﷺ الدولة الأولى في المدينة المنورة على أساس عقيدة الإسلام العظيم، وبعد التحاقه بالرفيق الأعلى، جاء الخلفاء الراشدون ومن بعدهم من الخلفاء؛ فتتابعت الفتوحات في عهدهم؛ ففتحت العراق وفتحت بلاد فارس وبلاد الشام، كما فتحت مصر وشمال أفريقيا والسند وخوارزم وسمرقند والأندلس، وكانت هذه الأقطار المتعددة متباينة القوميات واللغات والدين والتقاليد والعادات والقوانين والثقافة، وكانت مختلفة العقلية والنفسية؛ لذلك كانت عملية صهرها بعضها ببعض وتكوين أمة واحدة منها، موحدة الدين واللغة والثقافة أمرا عسيراً وشاقاً، ويعتبر النجاح فيها شيئا غير عادي، فما لبثت الدولة الإسلامية سوى سنوات قليلة حتى صهرت هذه الكيانات والأعراق والقبائل في بوتقة الإسلام وجعلت منهم أمة واحدة تربطها رابطة الإسلام، موحدة الفكر والشعور والنظام.
وبعد هدم الخلافة سنة ١٩٢٤م استطاع الغرب الكافر أن يقضي على وحدة المسلمين ويستبدل بكيانهم الجامع دويلات وطنية وظيفية حارسة لمصالحه. هذه الدويلات أثارت النعرات القبلية والجهوية بين المسلمين وأبعدتهم عن رابطة الإسلام واستبدلت بها رابطة الوطن ورابطة القبيلة، كما أبعدت أحكام رب العالمين في حل النزاعات بين الناس واستعاضت عنها بأحكام الغرب الكافر مثل فكرة (الحواكير) في السودان، وهي مشتقة من الحكر وتعني الحيازة والتملك، وتاريخ الحواكير في السودان قديم منذ عهد السلطان موسى بن سليمان (١٦٣٧-١٦٨٢) في دارفور، وقد أصدر هذا السلطان أمرا باحتكار الأراضي للسلطنة ثم توزيعها على القبائل والعلماء وغيرهم من الشخصيات، ثم جاء الاستعمار البريطاني وجعل منها نظاما إداريا قسم على أساسه الديار، ورسم بينها حدوداً موضحة في الخرائط الحديثة، وحصر قيادة الديار واستخدام مواردها واحتكار ثرواتها على قبائل معينة، بوصفها الكبرى، وإهمال القبائل الأخرى الصغيرة كما هو حاصل اليوم في دارفور وكردفان وغيرهما، بل جعل للقبائل الكبيرة سلطاناً سياسياً وإدارياً على القبائل الصغيرة، وصار الاستعمار البريطاني يتعامل مع زعيم القبيلة (الناظر)، وهو الشخص المعين لإدارة الحواكير، وبناء عليه أعطته الإدارة البريطانية سلطات قانونية وإدارية ومالية؛ فله الحق في تطبيق القانون على جميع القبائل، كما له الحق في توزيع الأراضي حسب رؤيته، وبعد حقبة الاستعمار سارت الحكومات الوطنية على سياسة المستعمر الخبيثة نفسها، فأصبحت النزاعات على ملكية الأراضي تتكاثر، وبخاصة بعد صدور قانون الأراضي غير المسجلة الذي خول الحكومة استعمال القوة من أجل حماية الأراضي بوصفها مملوكة للدولة.
إن الصراع القبلي الدائر في مناطق النيل الأزرق وكردفان ودارفور، الذي ظل يتجدد بين الفينة والأخرى وحصد المئات من الأرواح البريئة وهجر الآلاف من قراهم ومناطقهم وبسببه أحرقت الديار ونهبت الأموال واغتصبت النساء وشاهد الناس الفظائع في القتل والانتقام مثل حرق الجثث وتقطيع الأوصال، كل هذه الانتهاكات والجرائم بسبب فكرة تملك الأرض عن طريق الحواكير، إضافة إلى النعرات القبلية الخبيثة التي غرسها الاستعمار في بلادنا وما زال يرعاها ويسقيها ويسعى إلى قطف ثمارها المرة بتمزيق ما تبقى من السودان.
إن الإسلام وضع معالجات واضحة فيما يتعلق بالقبيلة وبكيفية تملك الأرض؛ أما القبيلة فقد جعلها الإسلام للتعارف وليس للتفاضل والتفاخر، وحرم إخراجها من دائرة التعارف إلى دائرة التباغض والتناحر والتقاتل، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾، ولم يكتف الإسلام بذلك بل جعل من يدعو بدعوى الجاهلية فهو من أهل النار. قال ﷺ: «وَمَنْ دَعَا بِدَعْوى الْجَاهِلِيَّةِ، فَهُوَ مِنْ جُثَى جَهَنَّمَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى؟ قَالَ: وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ».
أما فيما يتعلق بأحكام الأرض فقد شرع الإسلام أحكاما خاصة بها؛ فجعل الأرض تملك بالشراء وبالإرث والهبة والإحياء والتحجير والإقطاع، أما الملك بالشراء والإرث والهبة فظاهر ومعلوم، وأما الملك بالإحياء فإن كل أرض ميتة إذا أحياها أحد فهي له، قال ﷺ: «مَنْ أَحْيَا أَرْضاً مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ»، وأما التحجير فهو أن يجعل على حدود الأرض ما يدل على تخصيصها له، كأن يضع حولها حجارة أو سياجا لقوله ﷺ: «مَنْ أَحَاطَ حَائِطاً عَلَى أَرْضٍ فَهِيَ لَهُ»، فالإحياء والتحجير تملك الأرض بهما، ولا تحتاج ملكيتها إلى إذن الدولة. أما الإقطاع فهي الأراضي التي تعطيها الدولة للأفراد مجانا دون مقابل، فقد أقطع رسول الله ﷺ أبا بكر وعمر أرضاً.
ثم إن الأرض حين تملك بأي واحدة من هذه الكيفيات، يجبر مالكها على استغلالها. أما ما يسمى بالحواكير فلا وجود له في الإسلام. إن هذه الأحكام الشرعية كفيلة بوضع حد للنزاعات والصراعات القبلية والجهوية، أضف إلى ذلك هيبة الدولة ودورها في التدخل وفصل النزاعات قبل أن تتفاقم وتتطور، فقد رأينا في أكثر من نزاع قبلي في السودان أن دور الدولة غائب تماما والدولة ليست لها هيبة، والحكام متواطئون مع أعداء الأمة في تمزيق البلاد، وما يدل على تواطؤ الحكام أن الصراع القبلي يبدأ بسبب بسيط في شكل شجار بين اثنين من قبيلتين ثم يتطور ويبدأ التحريض والخطاب العنصري البغيض، وتتواجه القبيلتان وتقتتلان والدولة لا تحرك ساكنا، بل تكتفي بإطلاق المناشدات، ثم بعد أن يفني الناس بعضهم بعضا تأتي الحكومة بوصفها وسيطا، وتدعو زعماء القبليتين المتصارعتين لعقد وثيقة صلح دون تطبيق أحكام الإسلام فيما يتعلق بالقصاص والديات، ولا يصمد الصلح سوى أيام قليلة ثم يتجدد القتال مرة أخرى... وهكذا الحال في أقاليم السودان!
ولن يستقيم حال هذه البلاد وأهلها إلا بالرجوع إلى أحكام الإسلام العظيم التي عالجت جميع مشاكل الإنسان بوصفه إنسانا، وجعلت الرابطة بين المسلمين هي العقيدة الإسلامية، ونبذت جميع الروابط الجاهلية النتنة، كما جعلت الحاكم راعياً ومسؤولاً عن أرواح الناس ودمائهم وأعراضهم وأموالهم، فإن ما يحتاجه أهل السودان وجميع المسلمين هو إقامة سلطان الإسلام بإقامة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة التي تطبق أحكام الله في الأرض.
بقلم: الأستاذ أحمد أبكر المحامي
عضو مجلس حزب التحرير في ولاية السودان
رأيك في الموضوع