إن الهجرة النبوية لهي حدث عظيم بكل المقاييس، لقد غيّرت مجرى التاريخ وأوجدت وضعا دوليا وعالميا جديدا، وأوجدت أمة من أعظم الأمم، بل خير أمة أخرجت للناس، جمعت شعوبا وأقواما من كل العالم بمختلف الألوان واللغات والعادات، وصهرتها في بوتقة واحدة، وكلها تعتز بإسلامها وتتمسك به وتنسب لها الفضل في حمل رايته أو تقديم الخدمات الجليلة له.
هاجر النبي ﷺ بوحي من الله ليقيم دولة على أساس الفكرة التي دعا إليها. ودليل ذلك أنه هاجر بعد أن أخذ البيعة من زعماء المدينة في بيعة العقبة الثانية على السمع والطاعة وأن لا ينازعوا الأمر أهله، وأن يمنعوه ﷺ مما يمنعون أنفسهم وأهليهم، فكانت بيعة على الحكم. فقد بايعوا رسول الله ﷺ ليحكمهم، وما إن حصل ﷺ على البيعة حتى شكل منهم مجلسا من 12 رجلا ليكونوا على قومهم وكلاء، ما يدل على أنه أصبح حاكما. فعندما وصل ﷺ المدينة سلموه الحكم، وجاء الناس يبايعونه على السمع والطاعة، وبدأ ﷺ يرتب شؤون الحكم، فبنى المسجد ليكون مركزا لإدارة شؤون الدولة بجانب العبادة، وكتب كتابا يشمل السياسة الداخلية فيما يتعلق بالتعامل مع مختلف الأطياف التي تقطن البلد، وبدأ بتسيير السياسة الخارجية فأقام علاقات حسن الجوار مع الدول المجاورة.
لقد تضافرت الآيات والأحاديث التي تتعلق بالهجرة والمهاجرين والأنصار، فكثرتها تلفت النظر إلى أهميتها ودراستها للأخذ بها والعمل بمقتضاها. فتشير إلى أن إقامة دولة للإسلام هي من أوجب الواجبات وأولى الأولويات. فالذين تجسدت فيهم الفكرة وهم الأوائل، وقد تحملوا في سبيلها كل أذى وعاشوا من أجلها واستعدوا للموت في سبيلها، فتركوا كل ما لديهم في مكة، وهاجروا ليبنوا الدولة مع رسول الله ﷺ، فركزت عليهم الآيات كما ركزت على الذين نصروا وآووا لأنهم سلّموه الحكم وتآخوا مع الذين هاجروا إليهم. فقد كال الله المديح للطرفين لدورهما في إقامة هذه الدولة ونصرتها وتقويتها والجهاد في سبيله لإعلاء كلمته. فكان الطرفان في المقدمة في القتال كما كانا في حمل الدعوة فكريا وسياسيا. وهم الذين حفظوا الدولة من بعده ﷺ وقاتلوا المرتدين ومانعي الزكاة، وساروا سيره في تقويتها وتمددها حتى تحكم العالم بأسره.
فالهجرة النبوية كانت لإقامة دولة، وليست أية دولة، بل دولة عظمى تضرب جذورها في أعماق الأرض طولا وعرضا، وتصل فروعها إلى عنان السماء، وتؤتي أكلها الطيبة في كل مكان. فرسخت المفاهيم المستقيمة وقضت على المفاهيم السقيمة، فنهضت بالناس نهضة صحيحة أدت إلى التقدم في كافة مجالات الحياة، فأخرجتهم من الظلمات إلى النور، ونشرت القيم العالية والأخلاق العظيمة، وطبقت الأنظمة الصحيحة، فأوجدت مجتمعا راقيا، وحكمت بالعدل، فحققت سعادة الدنيا لمن تظلل بأوراقها الوارفة، وسعادة الدارين لمن آمن وعمل صالحا.
إنها ذكرى عظيمة، وليست عيدا يحتفل بها كعيدينا الوحيدين الفطر والأضحى. فالذكرى تؤخذ منها الدروس والعبر للعمل بما تقتضيه، وتاريخنا حافل بالذكريات العظام، والهجرة ليست ذكرى عابرة تمر من دون التركيز عليها والتذكير بأهميتها والعمل على إحياء الهدف منها ألا وهو إقامة الدولة لمن أحب النبي ﷺ واقتدى به. فلا تُحيا بالاحتفالات وتوزيع الحلويات والرقصات المولوية وبتبادل التهاني، بل بالعمل الجاد والدؤوب لتحقيق الغاية منها.
إن الكفار أدركوا أن الإسلام عزّ وانتشر بدولة، فقرروا هدمها، حتى إذا تمكنوا من ذلك ليبدأوا بالعمل على هدم الإسلام، فأقاموا دولا على أنقاضها تحكم بالكفر مغلفة بأشياء من الإسلام حتى ينطلي الأمر على المسلمين بأن هذه الدول الوطنية الفاسدة والقومية العفنة دول إسلامية، لأنهم يدركون أن المسلمين لا يستطيعون العيش بدون دولة تحكمهم بدينهم وسيعملون من أجل إقامتها. ولجأ الكفار إلى أسلوب خبيث منطلقين من وجهة نظرهم العلمانية، فجردوا كل فكرة إسلامية من طريقة تطبيقها وأبقوا على الجانب الروحي والتعبدي حتى يضللوا المسلمين. فأبعدوا كل شيء يتعلق بالدولة وبدورها، وجعلوا أنظمة التعليم والتثقيف والإعلام تركز على الجانب الروحي والتعبدي وتتغاضى عن الجانب السياسي وتطبيق الإسلام في واقع الحياة والمجتمع والعلاقات الدولية. وتبعهم البعض، إما جهلا أو قصدا أو جُبنا أو حبا في الدنيا حتى لا يزعج الأنظمة العميلة التي تعمل لحساب الغرب وتطبق سياساته ونظمه وحتى لا تنكل به، حيث تنكل بكل من يبرز الجانب السياسي في الإسلام ويربط الفكرة بالطريقة ربطا محكما.
انظروا إلى العرب قبل إقامة هذه الدولة، بل إلى الشعوب كافة التي أسلمت وانصهرت في بوتقة الإسلام! لقد كانت تعيش في ظلام دامس وفي جاهلية بهيمية وفي عصبية عمياء، فجاء الإسلام فنهض بها ورفعها إلى مرتبة الأمم العظيمة.
فالنهضة هي الارتفاع الفكري، وهذا لا يكون إلا بالفكرة الكلية عن الكون والإنسان والحياة، ولا تتحقق النهضة عمليا إلا بالدولة القائمة على هذه الفكرة.
فالإسلام يملك هذه الفكرة، بل يملك الفكرة الكلية الصحيحة، فطبيعيا أن تتحقق النهضة، فيبدأ الناس بالتفكير في كل شيء وتطويره، فيحصل التقدم والرقي في الفكر والفقه والسياسة والعلم بكافة أنواعه من طب وصيدلة وفلك ورياضيات وفي الصناعة والعمارة والزراعة وفي الوسائل والأساليب. والإسلام يحقق النهضة الصحيحة، فتسود المجتمع القيم الأربع؛ الروحية والأخلاقية والإنسانية والمادية. فكل ذلك تحقق في الدولة الإسلامية فكانت محج طلاب العلم وكانت تتوجه إليها الأنظار لترى الابتكارات، فكان نجاح القيادة الفكرية في الإسلام منقطع النظير.
فالهجرة النبوية أقامت صرح دولة عظمى دامت 13 قرنا، منها 9 قرون كانت الأولى بلا منازع. وإنْ هدم الكفار كيانها ولكن فكرتها لم تمت وأمتها حية تتشوق لإعادتها من جديد، ولهذا ظهرت فيها جماعات لإنهاضها، وخاصة المخلصة التي تعمل لإقامة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة. وإذا ما أقيمت فسوف تحقق النجاحات السابقة في صهر الشعوب في بوتقتها مما عجزت عنه الرأسمالية والاشتراكية الشيوعية وسوف تحقق التقدم العلمي وتتفوق على الآخرين، وذلك كائن قريبا بإذن الله، ولو كره الكافرون.
رأيك في الموضوع