قراءة في كتاب وائل حلاق "الدولة المستحيلة" البروفيسور والأستاذ في جامعة كولومبيا للعلوم الإنسانية، وقد بثت الجزيرة الفضائية برنامجاً له بحلقتين، وكان الكثير من كلامه جيدا، وإن كان فيه بعض الأخطاء التي ربما جاءته من تصوره للدولة الإسلامية ونظامها وقوانينها، وللإنصاف فإنه أورد في كلامه أموراً تستحق التوقف عندها، فقد تمنى الرجل أن يعيش في ظل عدل الإسلام على أن يعيش فيما يسمى دول الحداثة، وهذه تحسب له فقد كانت الدولة الإسلامية لأزيد من ثلاثة عشر قرناً ملء سمع الدنيا وبصرها، وربما - وهذا افتراض - أن كونه ليس مسلماً، لم يرد أن يكون في طرحه ملكياً أكثر من الملك، مع أنه يقر أن غير المسلمين قد عاشوا في ظل الدولة الإسلامية وامتهنوا التجارة والسياسة، بل وإنهم على حد قوله كانوا أثرياء ومن كبار التجار.
وكان في كلامه وحديثه منصفاً للدولة الإسلامية فلم يكل الاتهامات للخلافة يمنة ويسرة كما يفعل بعض الأكاديميين الجهلة الذين أراحوا أدمغتهم من عناء التفكير والنظر، فالرجل عندما سُئل عن عدل الدولة الإسلامية مع أهل الذمة أجاب بكل جرأة أنه ومع كونه غير مسلم ويدفع الجزية إلا أنه يفضل أن يعيش في ظل دولة كالدولة الأموية أو العباسية على أن يعيش تحت دول الحداثة، وأن الخلل إذا حصل في الدولة الإسلامية فإن مرده ليس إلى الإسلام، وإنما للتطبيق، إلا أنه وهذا طبيعي لا يتصور كيف للمسلمين أن يعيدوا كياناً فقدوه منذ ما يزيد على القرن، وكيف لهم أن يعودوا سادة ويتركوا عبوديتهم للغرب، سيما والغرب الآن لا يحكم بلادنا فقط بنفسه كما كان الاستعمار القديم، وإنما يحكمنا بناس من جلدتنا يتكلمون بألسنتنا وهم وكلاء للغرب في تصريف الأمور وتنفيذها.
وأجدني هنا معنياً بأن أكتب بعض النقاط حول هذا الأمر، فأقول:
أولاً: إن الشريعة الإسلامية هي خاتمة الشرائع، ولا يستقيم أن يكون هذا حالها ثم تكون قاصرة عن بلوغ حاجات الناس وضبط فعالهم، سيما وأنها جاءت للبشرية جمعاء ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾، وعليه فلا يصح أن نحشره في قُطر، بل إن محله هو الكرة الأرضية كلها.
ثانياً: إن أية دولة في الدنيا تضع قوانينها وأنظمتها من عقيدة تعتقد صوابها، فإذا كان مصدرها أرضياً فإنه لا بد أن يُجري القائمون عليها تعديلات وتعديلات لتوافق هواهم، فتتم صناعة الدستور تبعاً لأهواء الناس، لذلك فالغرب يعتبر أن القانون أقرب إلى أن يكون مرآة للناس وتصرفاتهم، وهذه الآلية تخالف طريقة الإسلام في التشريع تماماً، فالتشريع الذي مصدره خالق البشر هو وحده الذي لا يعتريه نقص أو خلل وهو وحده الذي يمتاز بالثبات والشمول ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً﴾.
ثالثاً: ينكر وائل حلاق أن يكون للمسلمين دولة تحت تشريعات وأنظمة الحداثة المزعومة، وأنا أوافقه على العموم، فإن هذه الأنظمة ما فصّلت على مقاس يفيد المسلمين بشيء، فالنظام الغربي بحداثته جاء أفكاراً وعقائد مقابل أفكار المسلمين وعقيدتهم، بل جاء ليبعد كل ما من شأنه أن يصل بالمسلمين إلى دولتهم المنشودة، فهو يتغول على عقيدته ويأكل آلهة الديمقراطية إذا وصل الإسلاميون إلى الحكم والجزائر ومصر مثال، أي أن الحركات التي سارعت في ديمقراطيتهم لتصل إلى الحكم كانت كباسط كفيه إلى الماء، عادت من حلبة الصراع بخفي حنين.
رابعاً: إن أي نظام لا يصح أن يسمى نظاماً إذا لم يستوعب الحياة في أصلها وفصلها، فالنظام السياسي وهو شكل الحكم وطرازه والنظام الاقتصادي كيف تجبى الموارد لبيت المال أو خزينة الدولة وكيف تصرف وما هي أنواع الملكيات التي ينبغي التفصيل فيها وما هو شكل العلاقة بين دولة الخلافة وبين غيرها من الأمم والشعوب ومن هي الدول المحاربة فعلاً ومن هي المحاربة حكماً، كل ذلك وغيره لا يقبل أن يكون إلا من مصدر وحيد وحصري وهو خالق البشر، فالسياسة في الدولة الإسلامية ليست هوائية تتغير وتتبدل وفق مزاج الحاكم وإنما جلها أحكام ثابتة، فالخليفة والرعية كلهم خاضعون للثابت وهو الإسلام بأنظمته وأحكامه، ونعني بهذه النقطة أن من يريد أخذ الشريعة فإن عليه أن يأخذ منها كل شيء، فلا يتخير وَفْقَ هواه أو ما زين له الشيطان أنه مصلحة.
خامساً: ندرك أن حلاق والكثير من مفكري الغرب والشرق لا يعلمون عن حزب التحرير إلا النزر اليسير، والسبب في ذلك أن الإعلام كله لا ميثاق شرف يحكمه، لكنه يعمل تحت إمرة أصحاب السياسة فما أرادوا إبرازه أبرزوه وما أرادوا أن يجعلوه غير ذلك فعلوا؛ ولأن حزب التحرير لم تتبنّه المحطات الفضائية مثل غيره من الحركات فإن نظرته لعملية التغيير ربما تغيب عن المفكرين أمثال حلاق فضلاً عن العوام، ما يجعل الباحث حينها يحتاج إلى همة عالية ليصل إلى رأي الحزب، ومع فتور الهمم وضعف الاهتمام فإن الناس بمفكريهم لا يتناولون إلا ما طفى على السطح وتكاثر ذكره في الأخبار والفضائيات.
سادساً: إن حزب التحرير منذ تأسيسه في مطلع الخمسينات من القرن العشرين وهو يبصر الطريق كلها، ويعلم أن الدول لن تفرش له الأرض بالورود ولن تقبله وتقبل فكرته وستحاربها بكل قسوة وغلظة، لذلك لم يكن مستغرباً من الحزب أن تستعمل الأنظمة الغربية والشرقية كل أسلحتها ومتاريسها حتى لو استدعاها ذلك أن تدوس على كل القيم التي صدعت رؤوسنا بها مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة؛ لذلك فهو كان ولا زال يفعل كل شيء للوصول إلى الناس ليعلموا أنه جاد في الوصول للحكم وأنه قد أعد للأمر عدته.
إن ما غاب عن حلاق هو كيف يمكن أن تقوم دولة للمسلمين في ظل هذه الأنظمة وقد وافقناه على العموم بأن اجتماع الضدّين لا يجوز في العقل، فلا يعقل أن يعمل حزبٌ على تغيير نظام بآليات النظام ذاته، وإنما يجب الوصول للحكم بغير آلته ووسيلته، وهذا لا يكون إلا بطلب النصرة ممن يملك القوة والمنعة التي بها يحمى النظام، فيحول هذه القوة من حماية للنظام القائم إلى إعطاء النصرة لمن ينقله إلى قناعة جديدة تماماً كما حصل مع النبي عليه الصلاة والسلام مع الأوس والخزرج، فإن الأوس والخزرج كانوا قوة في المدينة المنورة، وكان لهم رؤوس لا يقطع الناس أمراً حتى يشهدوا، ولما حصل الاتصال بهم شاء الله أن يسوق لهم شرف نصرة الإسلام ومبايعة الرسول عليه الصلاة والسلام، فلم يتطلب الأمر منهم إلا انقلاباً فكرياً فينصروا الفكرة الجديدة ويخلعوا ما دونها من أفكار، وهذا الذي حصل فوق كونه واقعاً تواتر النقل به إلا أنه كذلك يقبله العقل، فإحالته عقلاً أو عادة أو نقلاً هو مجرد تحكّم، ونضيف إلى ذلك أننا لا نعمل بين الكفار فنطلب نصرتهم ولكن نطلب النصرة من أبناء المسلمين من أهلنا وإخوتنا، بمعنى أن النكتة التي نكتها الشيطان على قلوب البعض ليست هي الأصل، بل إن الأصل أن أبناء المسلمين من أهل النصرة أو غيرهم يحبون دينهم ونبيهم وقرآنهم، بل إنهم يتوقون لليوم الذي يحكمون فيه بالإسلام ليعودوا سادة الدنيا ورؤوسها، فينشروا الخير بالإسلام ويخلدهم التاريخ كما خلد الأوس والخزرج، ويجعل لهم لسان صدق في الآخرين.
والخلاصة أن البروفيسور حلاق لا يتصور أمر الدولة إلا بالمعطيات التي يسوقها الإعلام، أو أن رؤيته قاصرة على ما يشاهده من حركات سمت نفسها صاحبة الإسلام السياسي، فأخذت السياسة من كل أحد إلا من الإسلام، فقاس الباقي عليها وخرج بنتيجته في "الدولة المستحيلة"، وندعوه بعد أن ندعو له بأن يراجع ما كتب، فلربما غير رأيه والنتيجة التي وصل لها وعلم أن دولتنا ليست مستحيلة بل إنها ستعود سيرتها الأولى تحمي الأرض والعِرض وتذود عن حياض الإسلام وشريعته ويستظل بظلها المسلم والذمي، وما ذلك على الله ببعيد.
بقلم: الأستاذ خالد الأشقر (أبو المعتز بالله)
رأيك في الموضوع