أعرب المبعوث الأممي الخاص بالسودان فولكر بيرتس عن قلقه الشديد من أن يؤدي الانسداد السياسي الراهن في السودان إلى انزلاق البلاد نحو المزيد من عدم الاستقرار، وإهدار للمكاسب السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تحققت منذ قيام الثورة، وأشار في بيان له يوم السبت 08/01/2022م أن كل التدابير التي تم اتخاذها حتى الآن لم تنجح في استعادة مسار التحول الديمقراطي الذي يحقق تطلعات الشعب السوداني.
جاء هذا البيان في سياق إطلاق فولكر مبادرةً قال إنها للخروج من الأزمة السياسية الحالية، وستكون شاملة للجميع، وستتم دعوة جميع أصحاب المصلحة من المدنيين والعسكريين، بما في ذلك الحركات المسلحة، والأحزاب السياسية، والمجتمع المدني، والمجموعات النسائية، ولجان المقاومة للمشاركة في العملية السياسية، التي تتولى الأمم المتحدة تيسيرها، وأضاف فولكر أن البعثة الأممية لدعم الانتقال في السودان (يونيتامس) تعوّل على التعاون التام والمشاركة الكاملة لجميع أصحاب المصلحة في السودان للمساهمة في نجاح هذه العملية. فقد اشتدت وتيرة الصراع بين الأفرقاء في السودان في الآونة الأخيرة، وبخاصة بعد انقلاب البرهان على المكون المدني في الحكومة الانتقالية في 25/10/2021م، وازدادت حدة التوتر بعد قبول حمدوك بالعمل مع البرهان رئيساً للوزراء مرة أخرى، وذلك في تشرين الثاني/نوفمبر 2021م حتى اضطر حمدوك إلى تقديم استقالته بعد أقل من شهرين من توليه المنصب، وفشله في تكوين حكومة من تكنوقراط مستقلين كما وعد.
إن الناظر للوضع في السودان نظرة سياسية واعية، يعلم أن الصراع في السودان هو صراع نفوذ بين القوى الاستعمارية الكبرى؛ أمريكا وبريطانيا، وأن أمريكا تستخدم العسكر لخدمة مشاريعها في السودان، في الوقت الذي تستخدم فيه بريطانيا الفريق المدني، وهو صراع قديم يتجدد، رغم أن الأمور لا تزال بيد أمريكا حيث القوة العسكرية، أما بريطانيا فلا تملك القوة، غير أنها تستخدم الشارع للضغط على رجال أمريكا لأخذ شيء من السلطة، فهي تعلم أنها لا تستطيع أن تأخذ الحكم كاملاً من أمريكا، فهو خط أحمر، ولكنها تضغط لأخذ أكبر قدر من المكاسب، وهي قد استخدمت الشارع منذ 2019م عندما حاولت أمريكا، عبر العسكر، الاستفراد بالسلطة، فكانت مليونية 30 حزيران/يونيو 2019م، التي جعلت أمريكا تنحني للعاصفة، وتشرك رجال بريطانيا في السلطة عبر الوثيقة الدستورية التي هندسها عميل أمريكا في الاتحاد الأفريقي ود لباد.
وكانت الوثيقة الدستورية تنص على أن تؤول رئاسة مجلس السيادة للمدنيين بعد 21 شهراً من بداية العمل بالوثيقة، تكون في هذه الفترة رئاسة مجلس السيادة للعسكريين، وعندما حان وقت تسليم المدنيين لرئاسة المجلس تخوفت أمريكا من ذلك، مع الوضع في الاعتبار تصريحات القادة المدنيين بأنهم عندما يستلمون رئاسة مجلس السيادة سيقومون بهيكلة الجيش والأجهزة الأمنية، فما كان من أمريكا إلا أن انقلبت على الوضع واستلم البرهان السلطة بحجة تصحيح مسار الثورة، وقتها ثارت ثائرة بريطانيا وهاجت وماجت ووصفت الأمر بأنه انقلاب عسكري، وخرج سفيرها في الخرطوم جايلز ليفر محرضاً على العسكر فقال: "إن بلاده تدين بشدة الإجراءات التي اتخذها الجيش في السودان"، مضيفاً "إن هذه الإجراءات الأحادية غير شرعية"، بل وصل به الأمر لنشر مقطع فيديو أدان فيه الانقلاب.
وفي مقابل هذا الموقف الحاد من بريطانيا وسفيرها في السودان كان موقف أمريكا مغايراً تماماً، إذ تجنبت وصف ما حدث بالانقلاب العسكري، بل إن البرهان لم يقدم على انقلابه إلا بعد ساعات فقط من المباحثات التي أجراها معه المبعوث الأمريكي وقتها جيفري فيلتمان، ثم بدأ الضغط على العسكريين لإعادة حمدوك لرئاسة الوزراء، وقد كان، حيث كانت بريطانيا تريد عودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل الانقلاب في ظل وجود حمدوك، الذي وجد رفضاً من الشارع، بل واعتبر خائناً بقبوله العمل مع الانقلابيين، ما اضطر بريطانيا للإيعاز إليه بتقديم استقالته، مع الإبقاء على كرت الشارع للضغط على أمريكا من أجل نيل مكاسب كما حدث في العام 2019م عبر الوثيقة الدستورية. هذا الضغط المتواصل من الشارع الذي قابله العسكر بالقوة المفرطة، والتقتيل للشباب العزل، والضغط المتواصل من بريطانيا، وأدواتها، وتصوير السلطة بأنها سلطة ديكتاتورية عسكرية باطشة هو الذي دفع أمريكا لإيجاد مبادرة عبر أداتها الأمم المتحدة، التي أعلن ممثلها في السودان فولكر عن المبادرة حتى يصلوا عبرها إلى وثيقة جديدة تجعل لرجال بريطانيا شيئاً من السلطة فتهدأ الأوضاع مؤقتاً، لأن مثل هذه الشراكة لا يمكن لها أن تستمر في ظل تباين مصالح أمريكا وبريطانيا في السودان.
ومن المتوقع أن يوافق رجال بريطانيا على هذه المبادرة لأن بريطانيا نفسها وافقت مرغمة عليها، فقد أوردت صحيفة الشرق الأوسط الصادرة في 09/01/2022م هذه الموافقة تحت عنوان: "دعم دولي وإقليمي لتحرك الأمم المتحدة في السودان" جاء فيه: (عبرت مجموعة تضم السعودية والإمارات وبريطانيا والولايات المتحدة عن دعمها لجهود الأمم المتحدة في السودان، وقال بيان مشترك للمجموعة "نحن نؤيد بقوة مبادرة الحوار التي تيسرها الأمم المتحدة ويقودها السودانيون"). ومن نافلة القول إن أدوات أمريكا قد رحبت بالمبادرة، فقد رحبت الجامعة العربية بإعلان الأمم المتحدة للمبادرة.
هذا هو المشهد في السودان، فهل من المتوقع أن توجِد مبادرة فولكر استقراراً للحكم في السودان؟ الإجابة واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار؛ فإن المبادرة لن توجد استقراراً للحكم في السودان، وإنما تسكين للأزمة قابل للتجدد في أي وقت متى أحس أي من طرفي الصراع بقوة تجعله يستفرد بالحكم. إذن ما هو الحل الذي يخرج السودان من أزماته، ويحفظ دماء شبابه، ويوجد حياة كريمة لشبابه ونسائه وأطفاله؟ إنه الإسلام، دين أهل السودان حيث يجعل الإسلام أمر الحكم مسئولية ورعاية شئون، وليس غنيمة يتحاصصها سياسيون ينفذون على الأمة سياسات المستعمرين الطامعين في ثرواتنا. يقول الرسول ﷺ عن الحكم: «... وَإِنَّهَا أَمَانَةُ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إِلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا، وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا»، ويقول عليه الصلاة والسلام: «الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» البخاري.
فما على أهل السودان إلا العمل مع حزب التحرير لإقامة دولة الإسلام دولة الرعاية والمسئولية؛ الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة، فهي وحدها التي توجد لكم الحياة الكريمة في ظل رضا الرحمن.
الناطق الرسمي لحزب التحرير في ولاية السودان
رأيك في الموضوع