لكل دولة رغبات ومصالح وحاجات وسيادة تتعلق بمجالها الخارجي، ويطلق عليها المجال الحيوي للدولة، وتسمى كذلك المصالح القومية أو المصالح العليا للدولة، وتكون هذه المصالح متعلقة بالدفاع، أو الاقتصاد، أو مصلحة عقدية، أو غيرها. وتتخذ الدول لتحقيق هذه المصالح كافة الأساليب والوسائل، ولو أدى الأمر لاتخاذ إجراء الحياة أو الموت، كما أن هذه المصالح قد تتسع في مجالها حتى تشمل كل العالم، فيكون العالم كله مجالا لها، كما أنها يمكن أن تضيق حتى تفرط في الدفاع عن شعوبها، وكل ذلك يعتمد على الدولة وعلى حكامها.
فمثلا كان المجال الحيوي لأمريكا، قبل الحرب العالمية الثانية، هو الجزء الجنوبي من الكرة الأرضية وفق مبدأ مونرو، وبعد الحرب وتسنم أمريكا السياسة الدولية اتسعت دائرة مصالحها الحيوية فجعلت من العالم كله مجالاً حيوياً لها، وقد أطلقوا عليها اسم المنطقة الكبرى، ما يتيح لهم التدخل وقتما يشاؤون وكيفما يشاؤون، وقد عبرت عن ذلك إدارة الرئيس كلينتون بأن: "الولايات المتحدة تمتلك الحق باستخدام القوة العسكرية لضمان وصول غير مقيد إلى الأسواق الرئيسية، ومصادر الطاقة، والموارد الاستراتيجية. ويجب عليها الاحتفاظ بقوات عسكرية في أوروبا، وآسيا، وأفريقيا للمساهمة في صياغة آراء الناس ووجهات نظرهم تجاهها". وكانت بريطانيا كذلك ذات نفوذ واسع في العالم، متخذة منه مجالاً حيوياً لها، إلا أنه وبعد الحرب العالمية الثانية تقلص نفوذها داخل إطار دول الكمونولث. كما أن فرنسا وفي تلك الحقبة الزمنية نفسها تقلصت دائرة مصالحها الحيوية إلى مجموعة الدول الفرانكفونية، أما روسيا فانحصر نفوذها، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي إلى بعض الدول المحيطة بها.
أما دولة المسلمين الأولى التي أسسها الرسول ﷺ، فقد اتخذت من أول يوم لتأسيسها، منطقة القبائل حول يثرب مجالاً حيوياً لها لنشر دعوتها، وما لبثت أن توسعت دائرة المجال الحيوي لديها لتشمل كل الجزيرة العربية، ثم اتسعت لتجعل من العالم كله مجالاً حيوياً لنشر الدعوة، فأرسل رئيس الدولة، نبينا الكريم ﷺ الرسل إلى كل دول العالم الفاعلة وغير الفاعلة في المسرح الدولي آنذاك، بل وأرسل الجيوش كذلك من أجل الدعوة، وقد سارت دولة الخلافة من بعده على هذا النهج، جاعلة من العالم كله مجالاً حيوياً لنشر الدعوة إلى الإسلام، لأن الدعوة هي المصلحة العليا لدولة الخلافة.
وهنا يرد سؤال، هل يعتبر سد النهضة مصلحة حيوية للسودان؟ للإجابة عن هذا السؤال، لا بد من الرجوع إلى أهل الاختصاص، فهم أقدر من يصف الواقع بدقة، ويبين الحقائق بتجرد تام.
قال الخبير الدولي في الموارد المائية، والعضو السابق في وفد السودان في مفاوضات سد النهضة د. المفتي: "إن أكثر من 20 مليون مواطن سوداني مهددون بخطر عظيم بسبب سد النهضة".
وقال خليفة كمير، المتخصص في مجال تنمية السدود والطاقة: "إن سد النهضة حال انهياره سيتسبب في تدمير سدود السودان على النيل الأزرق".
وذكر الدكتور هشام بخيت أستاذ الهيدروليكا بكلية الهندسة - جامعة القاهرة، وعضو مصر في مفاوضات سد النهضة: "إن سد النهضة صنّف دوليا من المشاريع الأكثر خطورة، وإن احتمال انهياره وارد بسبب الواقع الجيولوجي للمنطقة، وعدم تحملها إنشاءات خرسانية".
وكشف الخبير مكي البحيري لموقع العربية نت أن هناك دراسات كثيرة كشفت مخاطر سد النهضة، وذلك لكبر حجم السد وارتفاعه، مضيفاً أن مادة بناء السد إسمنتية ومعامل الامتصاص فيه منخفضة ولا تتعدى 1.5 درجة بمقياس ريختر، بينما معامل الأمان للسد العالي 8 درجات.
وفي التقرير الذي أعده الخبير الأمريكي أصفيو بيني، أستاذ الهندسة الميكانيكية بجامعة سانتييغو بولاية كاليفورنيا، أن سعة بحيرة سد النهضة مبالغ فيها بما لا يقل عن 300%، وأنه ينبغي تقليص السد للثلث، ونقص الارتفاع، والسعة التخزينية، ويقول إن الأوضاع الجيولوجية للمنطقة التي أقيم عليها السد زلزالية، وتاريخها يشير إلى ذلك، ويتابع الدكتور من الطبيعي أنه متوقع انهيار السد بتخطيطه الحالي، فالبيانات المتوفرة تشير إلى أن هناك ما يقارب 10000 زلزال تفوق قوتها 4 درجات بمقياس ريختر، حدثت بالقرب من موقع السد، خلال الفترة ما بين 1970 وحتى 2013م، والدليل على ذلك انهيار جزء من سد تيكيزي الذي أقيم عام 2009م، كما انهار سد جيبي٢ المقام على نهر أومو المتجه إلى كينيا بعد عشرة أيام من افتتاحه رسمياً عقب أول فيضان للنيل. ويشير البحيري إلى أنه خلال الــ15 عاما الأخيرة تم إنشاء 70 سداً صغيراً شمال إثيوبيا، وحدث أن انهار وتهدم نحو 45 منها، ويقول: "ما يزيد الأمر خطورة وقوع السد في منطقة الأخدود الأفريقي الشرقي، كما أن الهضبة شمال بحيرة تانا تقع على ارتفاع 4620 مترا فوق مستوى سطح البحر، وينحدر الماء إلى ارتفاع 600 متر على الحدود السودانية، وهذا الانحدار يجعل احتمال انهيار السد أمراً واقعاً".
بناء على هذه الآراء العلمية، وآراء الخبراء، فقد أقر المسؤولون في حكومة السودان بالخطورة التي يشكلها سد النهضة على حياة الناس، كما صرح بذلك رئيس الوزراء السوداني حمدوك، ووزير الري، غير أنهما أشارا إلى بعض الفوائد، لكن ما فائدة العسل الذي هو شفاء للناس، إذا كان مخلوطاً بسم زعاف؟! أما وزيرة الخارجية السودانية فذهبت لأبعد من ذلك حيث ذكرت أن السد يشكل خطراً على نصف سكان البلاد، ما يعني أن سد النهضة يشكل تهديدا وجودياً لأهل السودان بالغرق في حال انهياره، وهو أمر محتمل حسب آراء الخبراء.
أما الإجراءات التي قامت بها الحكومة فلا تتناسب مع هذا الخطر العظيم المحدق بأهل السودان، فقد دخلت الحكومة في مفاوضات مع إثيوبيا، وصفها د. المفتي، وكان أحد المشاركين فيها، بأنها مفاوضات عبثية لا تجدي نفعاً، وأن استجداء الاتحاد الأفريقي ومجلس الأمن الدولي لا تتناسب مع هذا الموقف، بل كان من الواجب أن يصدر بيان مشترك بين السودان، ومصر التي هي أيضاً مهددة بالعطش، يأمران فيه إثيوبيا بالتوقف فوراً عن بناء السد، وإلا فسوف يكون الرد "ما ترى لا ما تسمع"، وإن كان التفاوض مقدمة لا بد منها، فكان يتمثل في حده الأدنى بالمثل الأمريكي "تحدث بصوت منخفض واحمل بيدك عصا غليظة"، فهذه العصا الغليظة هي مربط الفرس في حل هذه المعضلة. فأن نموت أسوداً أعزاء في ساحة الوغى، خير لنا من أن نموت نعاجاً أذلاء بالغرق!
إن سد النهضة لا يمثل تهديداً لأهل السودان ومصر فحسب، بل يمثل تهديداً لكل المسلمين، قال رسول الله ﷺ: «الْمُسْلِمُونَ تتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ»، فيوم أن كنا يداً واحدة كان مجالنا الحيوي كل أصقاع العالم، قال ﷺ: «بُعِثْتُ إِلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ...». فيا أهل السودان ومصر، إن موقف المتفرج من هذا الخطر لا يبرئ ذمتنا، فلا بد من الأخذ على يد هؤلاء الحكام حتى لا يوردونا مورد الهلاك، ويسوقونا كالخراف إلى مذابحها، فأروا الله من أنفسكم خيراً.
رأيك في الموضوع