إن المدقق في البيان الختامي للحوار الاستراتيجي العراقي الأمريكي يتبين له بوضوح أكذوبة هذا العنوان لأن الحوار عادة يتم بين طرفين بينهما نوع من التكافؤ مهما كان بسيطا، وفي هذا الحوار ليس هناك أي تكافؤ! فأمريكا قوة محتلة والحكومة العراقية بكل أشكالها المتعاقبة ثمرة هذا الاحتلال، ولهذا السبب ليس هناك حوار بل هناك قرار أمريكي يملى على الحكومة العراقية يشمل جميع مفاصل الدولة، فقد صرح الكاظمي رئيس الحكومة العراقية والقائد العام للقوات المسلحة، تعليقا على هذه المحادثات، أن الحوار الاستراتيجي بين العراق والولايات المتحدة يتناول ملفات متعددة بين البلدين، منها السياسية والاقتصادية والصحية والثقافية، فضلا عن التعاون الأمني.
ووفقا للبيان "جدد الطرفان تأكيدهما على أهمية هذه المناقشات والتي ركزت على تعزيز الشراكة الاستراتيجية طويلة المدى التي حددتها اتفاقية الإطار الاستراتيجي، وعلى القضايا الرئيسية ذات الاهتمام المشترك: كالاستقرار الإقليمي، والصحة العامة، وتغير المناخ، وكفاءة الطاقة واستقلاليتها، والقضايا المتعلقة بالمساعدات الإنسانية وحقوق الإنسان، والتعاون الاقتصادي، والتبادل الثقافي والتعليمي، وغيرها من المواضيع.
وأضاف أن "حكومة العراق أكدت من جديد التزامها بحماية أفراد التحالف الدولي الذين يقدمون المشورة والتدريب للقوات الأمنية العراقية، كما أكدت بأن جميع قوات التحالف الدولي عملت في العراق بناءً على دعوتها".
وأردف، أن "الوفدين أكدا أن القواعد التي تستضيف أفراد الولايات المتحدة وأفراد التحالف الدولي الآخرين هي قواعد عراقية تدار وفق القوانين العراقية النافذة وليست قواعد أمريكية أو قواعد للتحالف الدولي وأن وجود الأفراد الدوليين في العراق هو فقط لدعم حكومة العراق في الحرب ضد تنظيم داعش".
وتابع أن "الوفدين اتفقا بعد استكمال مباحثات الفرق الفنية الأخيرة، بأن العلاقة الأمنية ستنتقل بالكامل إلى المشورة والتدريب والتعاون الاستخباري، ولن يكون هناك أي وجود لقوات قتالية أمريكية في العراق بحلول 31 كانون الأول 2021".
فمما تقدم وغيره لا يتسع المقام لذكره، يتبين أن وجود أمريكا في العراق لا يقتصر على الوجود العسكري بل إن وجودها يشمل جميع الجوانب السياسية والاقتصادية والثقافية، والتركيز على الوجود العسكري حتى من جهة الفصائل المسلحة يعتبر من السذاجة، وهذا لو كانت هذه الفصائل تمتلك قرارا سياسيا وليست مرتبطة كما هو الحال.
وهنا لا بد من تسليط الضوء على ما تطمح إليه أمريكا من خلال هذه المحادثات والقرارات، فعلى مر السنين ومنذ احتلال أمريكا للعراق وما تكبدته من خسائر عقب هذا الاحتلال على يد المقاومة العراقية، تعالت الأصوات المنددة بالوجود الأمريكي في العراق مطالبة واشنطن الحد من هذه الخسائر، ولكن العراق له أهميته الاستراتيجية بالنسبة لأمريكا فهو الضمان لاستقرار المنطقة ومد الاقتصاد العالمي بالنفط، فأمريكا اليوم تحاول لملمة أوراقها وإعادة ترتيبها بما يضمن مصالحها الاستراتيجية في وجودها العالمي، فهي تحاول تقليص قواعدها والاقتصار على بعض القواعد المهمة لتقليل الإنفاق والتركيز على المهام الاستراتيجية لها في بعض قواعدها، وكذلك انسحابها من أفغانستان وتوكيل المهمة لدول أخرى مثل تركيا وباكستان لتحقيق مصالحها هناك، هذا ما يخص أمريكا.
أما العراق فالكل يعلم أنه دولة تعاني تشتتا وانقساما سياسيا ومجتمعيا منذ احتلاله عام 2003م إلى الآن، واليوم بعد إعلان البيان الختامي لهذا الحوار ازداد تقسما وتشرذما، فقد أعلنت الهيئة التنسيقية لفصائل المقاومة العراقية "أنها لن تسمح بوجود أي جندي أمريكي في العراق تحت أي ذريعة".
وأضافت هذه التنظيمات، في بيان، أن انسحاب ما سمتها "القوات المحتلة" كي يكون حقيقيا لا بد أن يكون شاملا من كل العراق، وبالتحديد من قاعدتي عين الأسد والحرير الجويتين.
وتضم الهيئة التنسيقية فصائل شيعية مسلحة تدعمها إيران، منها كتائب حزب الله العراقي، وعصائب أهل الحق، وكتائب سيد الشهداء، وحركة النجباء، كما أشار البيان إلى أن وجود القوات الأجنبية يشمل قوات التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية وقوات حلف شمال الأطلسي.
وأكد البيان أن أمريكا إذا لم تلتزم بسحب قواتها، فإن هذه التنظيمات ستتعامل مع أي وجود أجنبي عسكري في العراق على أنه احتلال، وستواصل قتاله بكل ما أوتيت من قوة.
وفي المقابل هناك من رحب بهذا الحوار؛ فقد علق زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر على هذا الاتفاق، شاكرا رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، ودعا في تغريدة له على موقع التواصل (تويتر)، إلى وقف العمليات العسكرية ضد القوات الأمريكية بعد أن أعلنت جدولة انسحاب قواتها من العراق.
والحاصل أن أمريكا بهذا الحوار تعزز وجودها وهيمنتها على جميع مفاصل الدولة من خلال التلاعب بالألفاظ والضغط على الحكومة العراقية بأن تقوم بدورها في حماية جنودها، وإظهار الكاظمي باستقباله في واشنطن وإعطائه هالة أكبر من حجمه أنه على شيء وهو ليس على شيء!
أيها المسلمون في العراق: أمريكا دولة محتلة واحتلالها للعراق لم يقتصر على الجانب العسكري فهي تهيمن على العملية السياسية من خلال حكومتها المسخ وأحزابها العميلة، وتهيمن على اقتصاد البلد وثرواته من خلال الاستثمار والخصخصة، وتهيمن على ثقافته من خلال ديمقراطيتها العفنة وبرامج التعليم، ويأتي هذا الاتفاق لتعزيز كل ذلك بعبارات ظاهرها فيه الرحمة وباطنها من قبله العذاب، فهي لا تلقي بالاً للشعب العراقي بأي واد يهلك، ولا همّ لها إلا مصالحها وتثبيت وجودها ولو أدى ذلك إلى الفوضى والاقتتال بين أبناء هذا البلد، فأمريكا لن تخرج من بلاد المسلمين إلا مرغمة صاغرة، وليس بالمفاوضات بين عبد ذليل وسيد متغطرس، ومحاولة أمريكا المحتلة وضع الشعب العراقي بين نارين إما الركون والتسليم لها أو الفوضى والانهيار الاقتصادي والعقوبات، وكذلك ليس بجماعات مسلحة مرتبطة بدول لها مصالحها وأطماعها في هذا البلد الجريح.
أيها المسلمون في العراق: إن الذي حدث في العراق حصل بقوة خارجية غاشمة حطمت البنى التحتية للعراق ومزقت نسيجه المجتمعي، وهي حالة خطرة لا ينفع معها الترقيع بالعملية السياسية أو تغيير الشخوص عبر الانتخابات، بل لا بد من التغيير الجذري، فالحل الصحيح والعلاج الناجع لكل مأساة العراق والمسلمين عامة هو الرجوع إلى الإسلام العظيم وشريعته الغراء وجعلها أساس العمل، ومعرفة الطريقة الشرعية للخلاص من جميع مشاكلنا، فقد حرم علينا الإسلام العيش إلا في ظل الإسلام وأحكامه وجعلها قضية مصيرية يتخذ تجاهها إجراء الحياة أو الموت، وهذه المشاكل لم تظهر إلا بعد تخلي المسلمين عن تحكيم شرع الله في جميع مجالات الحياة، فالواجب على الأمة هو إعادة سلطانها المغصوب وإقامة حكم الله في الأرض في ظل الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، وهذا لا يتأتى إلا بتوحيد الصف وقطع كل العلاقات والارتباطات المشبوهة والالتفاف حول قيادة سياسية مخلصة توحد الأمة وتحرر البلاد من الاستعمار بكل أشكاله السياسية والاقتصادية والثقافية...
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾
بقلم: الأستاذ مازن الدباغ – ولاية العراق
رأيك في الموضوع