(الجزء الأول)
إن وراء الأكمة ما وراءها، إن هناك دسائس وخفايا استعمارية تظهر بعض أطرافها وتختفي أخرى، إلا أن الحقيقة الفاضحة التي تعلو الأكمة هي أن بلاد المسلمين من مشرقها إلى مغربها ساحة للتكالب والتطاحن الاستعماري، ثمنها يُدفع من دماء أبنائها وثروات بلدانهم.
وما كانت بلاد المغرب الأقصى استثناء، فكل أزماتنا مردها إلى لغم من ألغام الاستعمار ودسيسة من دسائسه، وما كان التوتر السياسي الأخير بين المغرب وإسبانيا إلا من ملحقات تلك الدسائس والسياسات الاستعمارية للبلاد الإسلامية.
فقد لاحت الأزمة السياسية بين المغرب وإسبانيا في الأفق، على خلفية استقبال الأخيرة لإبراهيم غالي زعيم جبهة البوليساريو على أراضيها، ونشبت الأزمة واحتدت واتخذت الخلافات أبعادا كثيرة حيث تم إلغاء اجتماعات دورية بين البلدين بخصوص ملفات مشتركة، وهددت الرباط بأنها لن تكون شرطيا على حدود أحد، في إشارة منها إلى عدم منع الهجرة إلى إسبانيا ما يفسر تدفق الآلاف من أهل المغرب نحو سبتة المحتلة، كما قامت الرباط باستدعاء سفيرتها لدى مدريد وصرح وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة أن السفيرة "لن تعود ما دامت أسباب الأزمة قائمة".
ثم دخلت الأزمة بين المغرب وإسبانيا منعرجا جديدا بعد إصدار البرلمان الأوروبي قراره بشأن الأزمة الخميس 10 حزيران/يونيو 2021 أعلن فيه "رفضه استخدام المغرب للمراقبة الحدودية والهجرة وخصوصا القُصَّر غير المُرافَقين كآلية ضغط ضد الاتحاد الأوروبي"، في رسالة للرباط مفادها أن التوتر المغربي الإسباني قد تم نقله من مستوى ثنائي بين دولتين إلى مستوى بين المغرب والاتحاد الأوروبي.
ثم أعلنت بعدها مصادر إسبانية أن المغرب أوقف مفاوضات تجديد امتياز خط أنابيب الغاز من الجزائر إلى إسبانيا عبر المغرب، الذي تستفيد منه المجموعة الإسبانية "ناتورجي أنرجي"، حيث ينتهي عقد الامتياز في تشرين الثاني/نوفمبر المقبل حسب جريدة "إل موندو" الإسبانية، ثم تلاها قرار الرباط استثناء الموانئ الإسبانية من عبور الجالية المهاجرة. وما زالت كرة الثلج تتدحرج وتكبر.
هذا عن الطرف الظاهر من الدسيسة، أما الطرف الخفي وهو الأهم فهي الخلفية الاستعمارية والصراع الاستعماري الحاد خلال هذا العقد بين أمريكا وأوروبا على غرب البلاد الإسلامية تحديدا وأفريقيا عموما. فقد كان قرار إدارة ترامب الاعتراف بمغربية الصحراء بتاريخ 10/12/2020، حيث أكد أن أمريكا تعتقد أن "قيام دولة صحراوية مستقلة ليس خيارا واقعيا لحل النزاع وأن حكما ذاتيا حقيقيا تحت السيادة المغربية هو الحل الوحيد الممكن"، كان هذا الاعتراف الأمريكي هو القشة التي قصمت ظهر الاستعمار الأوروبي، فقد فهمت أوروبا أنه اختراق تام للمنطقة من طرف المستعمر الأمريكي، وأنه تهديد جاد لاستعمارها، فضلا عن إدراك الأوروبيين التام أن أمريكا جادة في تصفية الاستعمار الأوروبي ووأد أي تنافس ناعم وإنهاء المسألة الاستعمارية الأوروبية بالكامل للتفرغ للصين.
فقد عرفت بلاد المغرب الإسلامي محاولات أمريكية سابقة لانتزاعها من المستعمر الأوروبي وضمها للاستعمار الأمريكي وكذلك محاولات شتى لاختراقها، وقضية الصحراء كانت أداة من أدوات الاختراق الأمريكية، ثم كان الظرف الدولي والتحول في الموقف الدولي الذي تلا سقوط الاتحاد السوفياتي فأصبحت أفريقيا كلها في دائرة الاستراتيجية الاستعمارية الأمريكية، ثم كان الربيع العربي فاستغلت أمريكا الظرف وتدخلت بكل ثقلها السياسي والاستخباراتي والعسكري، وحركت ذراعها العسكرية (الناتو) صوب ليبيا، فنفذت إلى أحد أهم معاقل الاستعمار الأوروبي وتحديدا البريطاني، وهنا احتدم واحتد الصراع الاستعماري الأمريكي الأوروبي على غرب البلاد الإسلامية.
وكانت الساحة الليبية وقضية الصحراء أبرز مظاهر هذا الصراع، وقد كان ملف الصحراء بيد الإدارة الأمريكية أداة من أدوات الصراع مع أوروبا توظيفا واستغلالا واختراقا، حتى كانت الإدارة الجمهورية بقيادة ترامب وأسلوبها المستحدث في اختراق المنطقة، عبر وجودها المباشر والمكثف سياسيا واقتصاديا وعسكريا في الصحراء المغربية بوابة الساحل وأفريقيا وبابا مشرعا على بلاد المغرب الإسلامي.
سياسيا عبر قنصليتها التي ستدير الملفات الاستعمارية الحارقة في بلاد المغرب والساحل وجنوب الساحل، واقتصاديا عبر شركاتها الاستعمارية التي ستشرف على نهب ثروات تلك الأرض البكر من فوسفات وغاز وبترول ومعادن ومناجم نادرة، وعسكريا عبر إيجاد مرتكز لقيادتها العسكرية في أفريقيا "أفريكوم"، ما ترجمته مناورات "الأسد الأفريقي" الأخيرة بالمغرب، تحت "أفريكوم" والتي انطلقت الاثنين 7 حزيران/يونيو 2021 واستمرت حتى 18 منه، وحجمها غير المسبوق حيث تضاعف عدد الجنود المشاركين من 5000 إلى 10000 جندي، ودارت التدريبات في مختلف مناطق المغرب طانطان، أكادير، تافراوت، بن جرير، تيفيت والقنيطرة أي جنوب ووسط وشمال البلاد، وشملت التدريبات البرية والجوية والبحرية وتداريب على التطهير البيولوجي والإشعاعي والنووي والكيميائي. وما كانت تلك المناورات إلا جزءا من ذلك التكتيك الاستعماري لاختراق المنطقة ورصد جغرافيتها ومجتمعاتها.
وقد برز بشكل جلي الخلاف الحاد بين أوروبا وأمريكا إثر اعتراف إدارة ترامب بسيادة المغرب على الصحراء، حيث تزعمت هذا الخلاف ألمانيا، وعارضت بشدة الاعتراف الأمريكي، ثم بادرت بالدعوة لاجتماع طارئ لمجلس الأمن الدولي وكانت حينها عضوا غير دائم فيه، لاستصدار قرار ضد الاعتراف الأمريكي. ثم أكدت الخارجية الألمانية موقفها من قضية الصحراء في مؤتمر صحفي في 7 أيار/مايو 2021 وقالت المتحدثة باسم الخارجية الألمانية ماريا أديبار بأن "موقفنا من قضية الصحراء الغربية ثابت ولن يتغير" مضيفة "أوضحنا سابقا بأننا لم نستوعب قرار ترامب بالاعتراف بسيادة المغرب على الصحراء الغربية". تلا ذلك توتر العلاقات بين المغرب وألمانيا، حيث استدعت الرباط سفيرتها في ألمانيا للتشاور حول الموقف الألماني، وقررت الرباط تعليق كل اتصالاتها بالسفارة الألمانية ومؤسسات التعاون والتبادل الألمانية في المغرب.
كما دانت روسيا قرار ترامب الاعتراف بسيادة المغرب على الصحراء الغربية، ونقلت وكالات الأنباء الروسية عن نائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف قوله "هذا انتهاك للقانون الدولي". ورفضت وزيرة الخارجية الإسبانية أرانسا غونزاليس اعتراف ترامب بالصحراء الغربية كجزء من الأراضي المغربية. كما رفض الاتحاد الأوروبي الاعتراف الأمريكي، وفي تغريدة لمسؤول الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيف بوريل "الاتحاد الأوروبي يدعم موقف الأمم المتحدة فيما يتعلق بملف الصحراء الغربية" وأضاف "يدعم الاتحاد الأوروبي جهود الأمين العام للأمم المتحدة بما يتماشى مع قرارات مجلس الأمن الدولي ذات الصلة".
رأيك في الموضوع