إن إدراك العلاقات بين الدول أمر في غاية الأهمية، وعلى أساسه تتحدد الأهداف وترسم السياسات وتتشكل المواقف. وعلى رأس هذه العلاقات علاقة أمريكا كدولة أولى في الموقف الدولي مع بريطانيا الإمبراطورية الاستعمارية التي أفل نجمها وفقدت جل مستعمراتها.
ولإدراك العلاقة بين هاتين الدولتين لا بد من ذكر الخطوط العريضة التالية:
- إن مصالح الدول هي التي تحدد طبيعة العلاقات بينها.
- ومن المقطوع به أن تعدد الدول يحتم اختلاف المصالح، رغم وجود بعض المصالح المشتركة، ولو اتحدت كل المصالح لاتحدت هذه الدول في كيان سياسي واحد.
- إن الذي يحدد نوعية الصراع بين الدول هو ما تعتنقه هذه الدول من عقائد، فعندما تكون العقائد مخلتفة، يكون الصراع صراعا حضاريا وجوديا لا يتوقف إلا بإزالة الآخر من الوجود، كما كان حال الخلافة الإسلامية مع الدول الكافرة، مصداقا لقوله تعالى: ﴿وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا﴾.
وكما شهدناه في حالة الاتحاد السوفيتي والمعسكر الرأسمالي الغربي، حيث استمر الصراع حتى سقوط الاتحاد السوفيتي وزواله.
وإذا استعرضنا واقع أمريكا وبريطانيا نجد أنهما تنتميان إلى المبدأ نفسه وهو المبدأ الرأسمالي، الذي لا ينفك عن استعمار الشعوب واستعبادها، والذي فصل الدين عن الحياة وجعل مقياس الأعمال النفعية المجردة من كل القيم، وهذا يجعل الصراع بينهما صراعا تنافسيا وليس صراعا حضاريا عقائديا، غايته تقاسم النفوذ والمستعمرات.
إن التاريخ يقول إن أمريكا كانت مستعمرة بريطانية إلى أن قامت الثورة الأمريكية وطردت بريطانيا منها. وفي أواخر الربع الأول من القرن التاسع عشر كانت الولايات المتحدة لا تزال دولة ناشئة، وكانت الثورات في أمريكا الجنوبية ضد الاستعمار الأوروبي قد بلغت حدا عظيما، وكانت الثورة ضد إسبانيا على الخصوص قد نجحت نجاحا يؤدي إلى إخراجها من أمريكا الجنوبية فأحست الولايات المتحدة باجتماع الدول الأوروبية على نصرة إسبانيا، ورأت أنها أحق ببسط نفوذها هناك، فقدم الرئيس جيمس مونرو في سنة 1823 اقتراحا إلى الكونغرس يعلن فيه أن الولايات المتحدة الأمريكية تعتبر كل تدخل أوروبي في القارة الأمريكية عملا عدائيا يهدد سلامة الولايات المتحدة نفسها، فوافق الكونغرس على ما سمي "مبدأ مونرو". وبهذه السياسة مدت أمريكا حدودها الدفاعية إلى جميع أنحاء القارة الأمريكية، واقتلعت جذور الدولتين الاستعماريتين الكبيرتين إسبانيا والبرتغال، من القارة الأمريكية، ومكنها من أن تحل محلهما، وتصبح أمريكا الجنوبية بجملتها مزرعة لها.
وعقب الحرب العالمية الثانية رأت أمريكا أنها هي وريثة الاستعمار الأوروبي فأخذت تعمل على إخراج الأوروبيين من مستعمراتهم في أفريقيا وآسيا.
وعندما استولت روسيا على أوروبا الشرقية، وضعفت بريطانيا، أعلن الرئيس ترومان عام 1947 سياسته بشأن اليونان وتركيا وأطلق على هذه السياسة "مبدأ ترومان". وكانت تقوم هذه السياسة على مساعدة اليونان وتركيا في وجه الخطر السوفيتي، فحلت أمريكا محل بريطانيا في اليونان وتركيا.
استمرت أمريكا في سياستها، فكانت وراء ثورة الضباط الأحرار في مصر، محمد نجيب وعبد الناصر، التي سماها الكاتب المصري محمد خير هيكل ثورة يوليو الأمريكية.
وعندما قام عبد الناصر بتأميم قناة السويس، وقع العدوان الثلاثي على مصر، وانتهى بانسحاب بريطانيا من السويس، ألقى الرئيس أيزنهاور بيانه أمام الكونغرس بتاريخ 5/1/1957 وأعلن فيه سياسته التي أطلق عليها مبدأ أيزنهاور؛ ملء الفراغ بحجة مواجهة الخطر السوفيتي لتحل أمريكا محل بريطانيا، فدخلت المنطقة في صراع شرس بين أمريكا وبريطانيا على شكل انقلابات عسكرية كانقلاب شكري القوتلي في سوريا تبعته عدة انقلابات آخرها انقلاب عميل أمريكا حافظ أسد، وانقلاب عبد الكريم قاسم في العراق وآخرها انقلاب صدام حسين ليستقر العراق في يد بريطانيا، وخاض عبد الناصر حربه بالنيابة عن أمريكا في اليمن لطرد النفوذ البريطاني، ومثلها ثورة مصدق في إيران وآخرها ثورة خميني الأمريكية وطرد الإنجليز منها، والدخول في الحرب العراقية الإيرانية لتنتهي باحتلال العراق وأخذها من بريطانيا.
وما نراه الآن في اليمن وليبيا وبورما وغيرها لهو خير شاهد على الصراع الدموي الإنجلو أمريكي على النفوذ.
لقد اتبعت أمريكا وسائل عديدة لتمرير مشاريعها الاستعمارية وتبرير حروبها الدموية، منها:
- حجة الخطر السوفيتي.
- القروض والمساعدات الاقتصادية.
- المعونات العسكرية والتدريب.
- صناعة الذرائع، من بيرل هاربر إلى أبراج التجارة إلى أسلحة الدمار الشامل التي لا وجود لها في العراق.
- صناعة الإرهاب.
- إثارة النزاعات الطائفية والحروب الأهلية.
- الحروب بالوكالة يخوضها حكام عملاء أخلصوا للكافر المستعمر وقدموا مصلحته على مصالح شعوبهم.
إن العلاقة الأمريكية البريطانية هي علاقة دولتين استعماريتين تتصارعان على المستعمرات. وإن بريطانيا تنتهز الواقع الذي تعيشه شعوب البلاد الإسلامية، وضعف الأنظمة أمام ثورات الربيع العربي، وتدرك الأزمات التي تعيشها الدول الرأسمالية وفي مقدمتها أمريكا، من أزمة الديمقراطية وسقوطها، إلى أزمة اقتصادية، وأزمة صحية أظهرت حقيقة الدولة الرأسمالية وفشلها الذريع، وأزمة سياسية ضربت بنية المجتمع فأحدثت انقسامات عميقة وخطيرة فيه.
هذا الإدراك دفع الدهاء البريطاني إلى استغلال ما تعيشه أمريكا فأخذت تتطلع لإعادة دورها ومكانتها الدولية، فقدم رئيس وزرائها بوريس جونسون وثيقة من 100 صفحة بعنوان بريطانيا العالمية، تبرر خروجها من الاتحاد الأوروبي وأنه سيحررها لتعمل كقوة مرنة على المسرح الدولي، لتحاول استعادة أمجاد الماضي، وتوجد موطئ قدم لها في عالم يتغير بسرعة.
والمتابع لما عليه أمريكا مع بريطانيا، يرى ازدواجية في مواقف بريطانيا، فهي تخوض صراعا مريرا مع أمريكا للمحافظة على بقاء نفوذها في مستعمراتها وفي الوقت نفسه تساير أمريكا تجاه الصين وروسيا وتسعى لعقد معاهدات اقتصادية معها.
فهل تنجح بريطانيا في مسعاها؟
إن عودة أي دولة إلى موقعها الريادي لا يكون إلا بتقديم بديل يعطي حلولا حقيقية للأزمات والمشكلات التي أحدثتها السياسات الرأسمالية المتوحشة، وهذا ما لا تمتلكه بريطانيا ولا أمريكا، بعد ظهور زيف الديمقراطية وبشاعة نظامها الرأسمالي، وما أوصل إليه العالم من شقاء.
إن البديل الكفيل بحل الأزمات وإسعاد البشرية هو مبدأ الإسلام، عقيدة وتشريعا، مجسدا في خلافة راشدة على منهاج النبوة. إنها وعد الله سبحانه وبشارة نبيه ﷺ، فلمثلها فليعمل العاملون.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾
بقلم: الشيخ سعيد رضوان
رأيك في الموضوع