ما يشهده النظام الديمقراطي الأمريكي من ارتكاسات، سواء ما كان من انتخابات الرئاسة وما صاحبها من توترات شديدة، أو الهجوم الأخير على مبنى الكابيتول ومقر الكونغرس بالعاصمة واشنطن، ما كان ليكون حدثا عابرا أو حتى طارئا، بل هو زلزال في السياسة الدولية بكل المقاييس، كون الحدث في قلب العالم الغربي ومعقل ديمقراطيته، ومركز قوته وثقله الجيوسياسي، ودولته الأولى المؤثرة والفاعلة في الموقف الدولي. والتصدعات والتشققات حصلت على مستوى أعلى أنظمته، نظامه الديمقراطي، وديمقراطيته التي تعتبر الإطار السياسي للفكر الرأسمالي وأفعل شعاراته في عولمته ورؤاه وأنظمته.
والذي زاد من حدة خطر الزلزال وقوته أن مركزه وبؤرته هي النواة الصلبة للرأسمالية، وما طرأ عليها من تصدع وتصادم بين طبقات أصحاب رؤوس الأموال، والأحداث السياسية الأخيرة ما هي إلا انعكاسات وتجليات لذلك التصدع والتصادم الرأسمالي.
فالرأسمالية الأمريكية منذ العقد الأول من القرن الحالي باتت تتنازعها طبقتان من الرأسماليين، طبقة رأسماليي شركات الطاقة والبيتروكيماويات والسلاح والصناعة والتغذية، وطبقة التكنولوجيا الرقمية وشركاتهم العملاقة وثرواتهم الفلكية على غرار أمازون وغوغل ومجموعة إيلون ماسك وآبل وفيسبوك...، ومع تعاظم ثروات أصحابها وتأثير مجال تقنيتهم في الاقتصاد العالمي وحجم التجارة الإلكترونية أو الرقمية التي أصبحت أوسع رهان رأسمالي مستقبلي. وكي تكرس هذه الطبقة واقع احتكار القلة للثروة، ومن أجل استدامة هذه الوضعية، استثمرت شركات التكنولوجيا منذ 2010 جهودا ضخمة بهدف حشد دعم ومساندة مهندسي السياسات الاقتصادية والتجارية في أمريكا لمصالحها، أي ترجمة مكاسبهم إلى سياسات وإحداث تعديلات على المنظومة الاقتصادية بما يخدم مصالحهم. وهدفهم الدفاع عن التدفق الحر للبيانات من أجل نماء أرباح تجارتهم الرقمية أي التحرر التام لاقتصاد السوق، وتستغل هذا التدفق العالمي للبيانات مع وجود فراغ قانوني وتنظيمي، أي لا حسيب ولا رقيب على هذه الشركات في توظيف هكذا بيانات كيفما شاءت من أجل نماء أرباحها.
وكان لها ذلك في إدارة أوباما، فكل المعاهدات والاتفاقيات التجارية الدولية من 2010 إلى 2016 كانت خدمة لمصالح هذه الشركات وتجارتها الرقمية، بعدما صنعت لها لوبيات (مجموعات ضغط) فاعلة كـ"جمعية الإنترنت" و"جمعية الحاسوب وصناعة الاتصال" اللتين تضمان في عضويتهما كبرى شركات القطاع، حتى إن مدير مكتب الممثل الأمريكي للتجارة ما كان إلا أحد المسؤولين السابقين في لوبي رقمي آخر هو "تحالف شركات البرمجيات"، والذي تم اتفاق الشراكة بين دول المحيط الهادي ووقع في شباط/فبراير 2016 تحت سمعه وبصره، وكان أول انتصار حاسم تحققه شركات التكنولوجيا الرقمية.
فمصالح شركات التكنولوجيا الرقمية هي في التحرر من أي قيد، فهي تبغي العالم كله سوقا لها، وتريد هذه الشركات التحرر من أية مسؤولية قانونية في التقاط وتجميع مليارات المعطيات والبيانات عن مليارات الكائنات البشرية في ارتباطهم بالإنترنت يوميا، واستهدافهم كمستهلكين وزبائن لتجارتها الرقمية. وهذه التجارة معنية بفتح أبواب العالم على مصاريعها، وغير معنية البتة بمصدر ومنشأ البضاعة، بل ما يعنيها هو معدل أرباحها.
وهو ما يصطدم رأسا بمصالح شركات الطاقة والسلاح والصناعة والتغذية، فهذه الشركات تحت ضربات المنافسة الصينية والأوروبية، والأزمة المالية لسنة 2008 والتي ما زالت تعاني آثارها، وزادتها تفاقما جائحة كورونا، وفي مواجهتها لوضعها المتأزم كانت نظرتها في إغلاق السوق الأمريكية على منافسيها ونهج سياسة حمائية وعولمة مقيدة.
وكان رهانها لتحقيق أهدافها هو الرئيس الجمهوري ترامب، وفعلا منذ توليه الرئاسة 2017 نادى بالسياسة الاقتصادية الحمائية وباشرها عمليا، فانسحب من اتفاقية باريس للمناخ خدمة لمصالح شركات الطاقة، ورفض كل الدعاوى لتقنين السلاح، وانسحب من معاهدة اتفاق الشراكة بين دول المحيط الهادي لسنة 2016 قبل دخولها حيز التنفيذ ليهز كيان شركات التكنولوجيا هزا، كما أفضت عملية التفاوض حول اتفاق التبادل الحر لشمال أمريكا (ألينا) بين أمريكا والمكسيك وكندا إلى وثيقة تعمق حدة التوجه الحمائي والعدائي لشركات التكنولوجيا الرقمية لا سيما في مجال حماية مصادر الشيفرات والخوارزميات.
كما أن هذه السياسة الحمائية دفعت بالصين لبناء وتعزيز جدارها الرقمي الكبير، الذي منع مواقع مثل يوتيوب وفيسبوك وغوغل من النفاذ إلى 700 مليون من مستعملي الإنترنت الصينيين، ووراء هذه الحواجز ازدهرت شركات صينية مثل علي بابا وبايدو وتانسانت لتطور خدمات تكنولوجية متقدمة تجاوزت على أكثر من مستوى منافساتها من الشركات الأمريكية. وشكلت هذه السياسات الحمائية ضربة موجعة لشركات التكنولوجيا الرقمية الأمريكية، وكان أصحاب هذه الشركات من أشرس أعداء إدارة ترامب وسياساتها الحمائية.
وهكذا اصطدمت وتنافرت مصالح الرأسماليين أصحاب شركات التكنولوجيا الرقمية مع مصالح شركات الطاقة والسلاح والصناعة والأغذية، وبات الداخل الأمريكي ساحة صراع حاد، انعكس وترجم انقساما سياسيا في انتخابات الرئاسة بين مرشح رأسماليي شركات التكنولوجيا الرقمية الديمقراطي بايدن، ومرشح رأسماليي شركات الطاقة والسلاح والصناعة والأغذية الجمهوري ترامب، وكل طبقة تستغل وتوظف أدواتها الخاصة لحسم الصراع.
فرأسماليو التكنولوجيا الرقمية، وظفوا تكنولوجيتهم بدهاء ماكر في الانتخابات الرئاسية عن طريق التصويت عبر البريد الإلكتروني، ثم وظفوا ثروتهم في إعادة هيكلة البنية والقاعدة الشعبية الانتخابية، فقد قرر كبار رأسماليي قطاع التكنولوجيا مغادرة وادي السيليكون بكاليفورنيا إلى تكساس، وعلى رأسهم مجموعة إيلون ماسك والعملاقان أوراكل وباكارد، ويسعى آخرون لنقل مقراتهم، في خطوة جريئة لمنازعة شركات الطاقة والصناعة قواعدهم الانتخابية في عقر دارهم تكساس، كما أن الإغلاق الأخير لمنصات التواصل لحسابات ترامب ما كان إلا شيئا من هذا الصراع.
أما أوراق رأسماليي شركات الطاقة والسلاح والصناعة والأغذية، فمليشياتهم المسلحة الكابوس الأمريكي المفزع، قُدِّر عددهم في الماضي ما بين 200 ألف و600 ألف، علما أن عددهم تزايد بشكل كبير في السنوات الأخيرة، ربع أعضائهم من العساكر القدامى والأمنيين، حسب تقرير صحيفة نيويورك تايمز. ومن ثم استحضار كابوس الحرب الأهلية كسلاح لتخويف وتحطيم الخصوم. وورقتهم الأخرى هي تغلغلهم في أجهزة وإدارات الدولة، ما يفسر تخاذل بل يكاد يكون تواطؤ الشرطة والأجهزة الأمنية في التعامل مع الهجوم على مبنى الكابيتول واقتحام مقر الكونغرس.
هذا التنافر والتصادم في مصالح الطبقتين يجعلهما على طرفي نقيض، إلا أن المشكلة الأكثر عمقا وخطرا هي في فلسفة الرأسمالية نفسها وطريقتها الداروينية في حسم الصراع، وأن البقاء للأقوى هي المحصلة النهائية للصراع، فالرأسمالية لا تقبل القسمة. وهذا المنطق الدارويني هو ما يفسر حجم الخطر وحدة الانقسام وتمدده عموديا وأفقيا نخبة وشعبا. وذاك ما استشعرت خطورته كل القوى الدولية، فقد توالت التصريحات من رئيس الوزراء البريطاني والمستشارة الألمانية والصينيين والروس...
فخطورة الحدث فضلا عن تعريته للديمقراطية الغربية في نموذجها الأمريكي المهيمن، هو الخوف من استنساخ الحدث الأمريكي في عواصم غربية أخرى، فالتيارات الشعبوية في الغرب مؤهلة لهكذا فعل، والإفلاس الحضاري وفساد الأنظمة عامل حاسم.
يا معشر الساسة المبدئيين، حملة دعوة الإسلام العظيم، معشر المسلمين أصحاب الشهادة على الناس أجمعين:
إن المسألة الغربية استفحلت وطغى تحللها وتعفنها، وإن قضية الغرب طالت وتمادت، ملؤها الدماء والأشلاء والبؤس والشقاء والألم والعذابات، وآن لعقلكم وتفكيركم الاستراتيجي الرباني أن يأخذ زمام المبادرة، ليخلص البشرية من جحيم الرأسمالية الكافرة، ولن يكون إلا بإقامة فريضتكم الاستراتيجية الكبرى خلافة راشدة على منهاج النبوة، تعالج بها كل القضايا وتحل بها كل العقد، وبها تنعم البشرية بالعدل والأمان والرفاه، حتى لا تبقي الأرض في ظلها خيرا إلا أخرجته، ولا تبقي السماء من قطرها شيئا إلا أنزلته، ويُلقي الإسلام بجرانه في الأرض بإذن الله.
رأيك في الموضوع