لو قمنا بعملية استقراء للعوامل المدمّرة لاقتصادات الدول الناشئة حالياً لوجدنا أنّ الربا والخصخصة من أعظمها فتكاً، فهما تقضيان على معدلات النمو في الدولة مهما كانت عالية، فلو أخذنا تركيا نموذجاً فإنّنا نجد أنّ الشعب التركي فيه حيوية ونشاط كبيران، ويملك قدرات ومهارات وكفاءات عالية في الصناعة والعمل والإنتاج، لكنّ الربا والخصخصة تقتلان كل إبداعات هذا الشعب وحيويته، ولا تبقيان له غير الفقر والبطالة والتضخم والركود.
فالعملة التركية في حالة تراجع مستمر، وهبطت قيمتها بنسبة 30% منذ بداية العام الحالي، ولم تتمكن الدولة من إيقاف النزيف الحاد في رصيدها من العملات الصعبة، لذلك اضطر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى أن يقيل محافظ البنك المركزي التركي، وأنْ يقبل استقالة صهره براءت ألبيرق وزير المالية والخزانة، وأنْ يحمّلهما تردي الوضع الاقتصادي وعدم استقرار العملة، بالرغم من أنّهما التزما تماماً بتوجيهاته في خفض سعر الزيادة الربوية، وعيّنّ بدلاً منهما شخصين يتبنيان رفع نسبة الربا بما يخالف سياسته المعهودة السابقة.
لقد أنفقت الحكومة التركية منذ عام 2018 احتياطيات كبيرة من العملات الصعبة لدعم استقرار الليرة ولكن دون جدوى، وقدّر خبراء (غولدمان ساكس) خسارة تركيا هذا العام بحوالي 100 مليار دولار، وهو ما أدّى إلى تآكل رصيد الدولة من تلك العملات.
واضطر البنك المركزي أنْ يقترض عشرات المليارات من الدولارات من مُقرضين تجاريين ليتحسّن أداء الليرة ولكن دون تحقيق أي نتيجة تُذكر.
في العام 2002 كان الدين الخارجي للدولة 112 مليار دولار، وارتفع في العام 2016 إلى 421.4 مليار دولار، فيما بلغت نسبة التضخم أكثر من 25%، أمّا البطالة فقاربت نسبة 12%، بينما كان الحل الرأسمالي الوحيد المتوفر لا يخرج عن لعبة تخفيض أو زيادة النسبة الربوية ولا يوجد لديهم حل سواه.
هذا بالنسبة لآفة الربا القاصمة للظهر، أما الآفة الثانية فكانت أكثر فتكاً على مستوى عموم اقتصاد البلد، وهي الخصخصة التي تعدّى ضررها مُجرد سقوط العملة ليصل إلى فقدان كل قطاعات الإنتاج من يدي الدولة إلى أيدي حفنة من الرأسماليين الجشعين محليين وأجانب قاموا بشراء مرافق الدولة من الحكومة.
لقد بدأ إطلاق مشروع الخصخصة في تركيا في السنوات الست الأولى من حكم أردوغان بين عامي 2003 - 2009، فتم بيع مصانع السكر والأعلاف والسجاد ومناجم الكروم إلى القطاع الخاص مُقابل 30 مليار دولار، وتمّ بهذه الأموال إنشاء الأنفاق والأحياء السكنية والعمارات، ووجدت حركة تنمية، وشهدت تلك الحقبة ازدهارا اقتصاديا مؤقتا، دخلت بعد ذلك الاستثمارات الخارجية وضخت 469 مليار دولار في الأسواق التركية، بينما بلغت الديون في الفترة نفسها 460 مليار دولار.
ثم توسعت عمليات الخصخصة بعد ذلك لتطال كل شيء في الدولة، فباعت الحكومة حصصاً لها في شركات الغاز والاتصالات والسجائر والخطوط الجوية التركية ومؤسسّات صناعية أخرى، وحصل نوع إضافي من الانتعاش الاقتصادي لكنّه أيضاً مؤقت.
ثمّ تدفقت الشركات الأجنبية على تركيا بعد الموجة الثانية من الخصخصة، لا سيما الأمريكية والأوروبية منها، حتى بلغت 20000 شركة، فُتحت على إثرها البلاد على مصاريعها للمستثمرين الأجانب، وباتت تلك الشركات تسرح وتمرح وتعبث بالاقتصاد التركي من كل زواياه.
وهكذا فقد خصخصت الدولة مرافق لها في المرحلة الثانية بما قيمته 70 مليار دولار، وحصلت في البدء نشوة اقتصادية عابرة تبعها ركود قاتل، وبدأت معظم الأرباح تتسرّب للمستثمرين الأجانب، وتخرج معها العملات الصعبة، وكانت النتيجة تدهور المستوى المعيشي للعامة بشكلٍ مُتسارع، وانهيار العملة التركية، والعودة إلى سياسة الاقتراض بنسب ربوية عالية.
هذه هي باختصار الآثار المُدمّرة للخصخصة والعوائد الربوية.
رأيك في الموضوع