إنّ كثافة التدخل التركي في ليبيا أعادت نوعاً من التوازن العسكري بين القوى المتصارعة على الأرض بعد أن كانت كفة الميزان تميل بوضوح إلى جانب قوات خليفة حفتر المدعوم دولياً بشكلٍ مُباشر ومكشوف من روسيا وفرنسا، والمدعوم إقليمياً من كلٍ من مصر والسعودية والإمارات والسودان، إضافة إلى دعمه من دول أفريقية أخرى تابعة لفرنسا، وكان قد أدّى كُل هذا الدعم إلى مُحاصرة قوات حفتر للعاصمة نفسها والتضييق عليها.
إنّ تقديم هذه القوى الدولية والإقليمية الدعم الواسع لحفتر ما كان ليكون لولا إدراكها بأنّ حفتر هو صنيعة أمريكية، بل هو رجل أمريكا القوي في ليبيا، وهو ما جعلها لا تتردّد في الانحياز لحفتر باعتبار أنّ ذلك الانحياز يعني التقرب لأمريكا على أمل نيلها لحصة أكبر من الكعكة الليبية الدسمة بموافقة أمريكية.
لكن يبدو أنّ لأمريكا حسابات أخرى قد فاجأت هذه القوى الدولية وبالذات فرنسا وروسيا، وصدمتها، وذلك بعد أنْ انحازت أمريكا ظاهرياً إلى جانب حكومة الوفاق برئاسة السراج بحجة أنّها الحكومة الشرعية.
لقد استخدمت أمريكا الثقل العسكري التركي لدحر قوات خليفة حفتر وإبعاده عن العاصمة الليبية، ومن ثمّ إلحاق هزيمة مُدوّية لقواته ولداعميه بسرعةٍ قياسية بفضل تلك القوة العسكرية التركية المتفوقة، وبفضل المقاتلين السوريين الذين جلبتهم تركيا إلى ليبيا، والذين يملكون مؤهلات قتالية نوعية وخبرات عالية، فكان لهم دور بارز على الأرض في دحر قوات حفتر ومن معها من المرتزقة الروس وغيرهم من المقاتلين الأجانب.
إنّ هذا التدخل التركي في ليبيا ما كان ليحصل من دون ضوء أخضر أمريكي واضح، فلا تركيا ولا غيرها تجرؤ على القيام بهذا العمل الكبير في ليبيا بدون إذن أمريكي.
قال جيمس جيفري الممثل الخاص لأمريكا في سوريا: "إنّ أنقرة وواشنطن لهما أهداف جغرافية استراتيجية مُشتركة في سوريا وليبيا"، وقال ديفيد شينكر مُساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأوسط والأدنى: "إنّ التدخل التركي في ليبيا أبطأ تقدم قوات حفتر وخلق توازناً يُمهّد الطريق أمام سبل أفضل للتفاوض"، واتفق أردوغان وترامب في آخر مُكالمة تليفونية لهما في الثامن من شهر حزيران/يونيو الماضي على مواصلة العمل سوياً في الملف الليبي، وفصّل فؤاد أقطاي مستشار أردوغان ذلك بقوله: "إنّ التعاون بين تركيا والولايات المتحدة في الملف الليبي اكتسب عمقاً قد يصنع فارقاً إيجابياً"، وقال وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو في 11 حزيران/يونيو: "إنّه ينبغي للولايات المتحدة أنْ تلعب دوراً أنشط في ليبيا، وإنّ مسؤولين أتراكاً وأمريكيين سيناقشون الخطوات المحتملة وفقا لما اتفق عليه أردوغان وترامب في اتصالهما التليفوني"، وأضاف: "تلقينا تعليمات للعمل المشترك في ليبيا على مستوى وزارتي الخارجية والدفاع فضلاً عن الاستخبارات"... وفي هذه التصريحات أبلغ دلالة على تنسيق التدخل العسكري التركي في ليبيا مع أمريكا على كل المستويات.
والسؤال المهم الذي يطرح نفسه هنا هو: لماذا عمدت أمريكا إلى دعم حكومة الوفاق برئاسة فايز السراج عبر وكيلها أردوغان علماً بأنّها حكومة مدعومة أوروبياً من خلال اتفاق الصخيرات الذي أشرفت عليه بريطانيا وأوروبا؟
والجواب على هذا السؤال يتمثّل في أنّ هذا الدعم الأمريكي لحكومة السراج عبر تركيا يُحقّق لأمريكا ثلاثة أهداف استراتيجية رئيسة هي:
1- اختراق الوسط السياسي القوي الموالي لبريطانيا وإيطاليا وأوروبا في العاصمة طرابلس والمنطقة الغربية من ليبيا، وكسب رجال ذلك الوسط من خلال شعبية أردوغان الذي قدّم لهم قارب النجاة، وجذب أولئك السياسيين إلى دائرة أردوغان الأمريكية، وإبعادهم عن الأوروبيين.
2- إشراك تركيا أردوغان وروسيا بوتين في حل المشكلة الليبية على حساب الأطراف الأوروبية التقليدية على غرار ما حصل في سوريا.
3- إبقاء ليبيا مُفككة بين قوتين: أولاً قوات حفتر في بنغازي والشرق الليبي مدعومةً من عملائها وعلى رأسهم السيسي الذي استنفر قواته على الحدود المصرية الليبية، وثانياً القوات التركية وتوابعها في طرابلس والغرب الليبي، وهدف هذا التشتيت للقوتين التسهيل على أمريكا لتثبيت نفوذها في ليبيا من خلال وضع رِجل لها في بنغازي ووضع رِجل ثانية لها في طرابلس الغرب.
وما يؤكّد ذلك كثرة الحديث في هذه الأيام عن الخطوط الحمراء والتي بات يُكرّرها كثيراً الساسة الروس والمصريون ليل نهار، فيقولون بأنّ منطقتي سرت والجفرة باتا يُشكّلان الخطوط الحمراء التي لا يُسمح بتجاوزها مُطلقاً، وبهذه الطريقة تتمكن أمريكا من أنْ تكون لاعباً رئيسياً في ليبيا بعد أنْ كانت مُهمّشة قبل ذلك، فأمريكا ترسم الخطوط الحمراء والآخرون يتلمّسونها.
إنّ هذا النفوذ الأمريكي ومعه النفوذ البريطاني والفرنسي والأوروبي ما كان ليتسع ويتجذّر ويتمدد لولا وجود الحكام العملاء والخاضعين للاستعمار... فمثلاً لماذا تُصر تركيا على تنسيق تدخلها في ليبيا مع أمريكا لو لم تكن تدور في فلك أمريكا؟ ولماذا تُصر القيادة المصرية على دعم حفتر عميل أمريكا المعروف منذ ثلاثين عاماً، ولماذا تضع الخطوط الحمراء للتدخل التركي لو لم يكن السيسي عميلاً لأمريكا؟ مع أن لمصر أولويات كثيرة أكثر أهمية من الشأن الليبي، من مثل كيان يهود، ومشكلة سد النهضة الإثيوبي، ومشاكل الانحطاط الفكري وانتشار الفقر والتخلف الاقتصادي والصحي والتعليمي...
فمثل هذه القيادات الخانعة لأمريكا هي التي مكّنت النفوذ الأمريكي من التمدد في ليبيا، فالمشكلة إذاً هي مُشكلة دول خاضعة لأمريكا، وليست مُشكلة شعوب، وبمعنى آخر هي مشكلة قيادات خائنة لشعوبها، فهي قيادات باعت نفسها لأمريكا فأصبحت ذليلة وتابعة باستمرار.
رأيك في الموضوع