لقد تابعنا بكل حزن وأسى في الأيام الماضيات ما حصل في ولايات السودان المختلفة من طفوٍ لروح النزعة القبلية المقيتة بداية من ولاية جنوب دارفور بين الرزيقات والفلاتة، ثم تبعتها شرق السودان مدينة كسلا بين النوبة والبني عامر، ثم أخيراً مدينة الجزيرة وعاصمة جنوب كردفان مدينة كادقلي، كل هذه المناطق من ولايات السودان طفت وطغت عليها نزعة القبلية فجأة خلال أسبوع فقط وهي سابقة لم تحصل؛ إذ إن نار القبلية لم تأخذ هذا التوسع من قبل وحتى إن هناك مناطق ظهرت فيها هذه النزعة القبلية لم تظهر فيها من قبل مثل منطقة كسلا مما يثير الانتباه والدهشة وخاصة ظهورها تزامناً مع بقية الولايات، فهل هذه الأحداث حصلت عفوية نتاج وجود شيء من عصبية بين هذه المكونات أم أن هناك من أذكى نارها لكي يتكسب منها؟
إن الناظر لواقع السودان يجد أنه يتميز بحكمة الله من الخلق وهي التنوع والاختلاف الذي جعله من أجل المعرفة والتعارف والذي ينبني عليه جمال الحياة الدنيا حينما تتجرد النظرة للغير من التكبر والاستعلاء وتمتزج بنور الإسلام ويتآخى العرب والعجم لا يميزهم شيء عن بعضهم سوى التقوى.
نعم هذه هي حقيقة وطبيعة أهل السودان التي فطرهم الله عليها، ولكن عندما نصطدم بالواقع في تاريخ السودان منذ الاستعمار إلى يومنا هذا نجد أنها قد تحولت إلى قبلية مقيتة تدعو إلى الاحتراب والنزاع والقتال وذلك أن الغرب المستعمر قد استغل هذه الطبيعة حتى يتمكن من بلادنا وديمومة وجوده فيها فاستغل نظام (الحواكير) وهي عبارة عن قطعة أرض كانت في السابق تملّك لقبيلة أو مجموعة قبائل من السلطان فتتولى زعامة القبيلة من ناظرها الإشراف التام على هذه الحاكورة وتقسيمها لبطون القبيلة أو القبائل التي هي داخلة تحت هذه الحاكورة فاستغلها المستعمر عن طريق إنشاء النظام الإداري لما يسمى بـ(الإدارة الأهلية) كي يسهل له حكم بلادنا بأقل عدد من الموظفين وكذلك للتمييز بين أهل الدين والقبلة الواحدة، وبالتالي ورثت الحكومات الوطنية المتعاقبة هذا الإرث الاستعماري البغيض وظلت تنتهج نهجه فكان منها من تسلح قبائل ضد أخرى حتى تضمن ولاءهم لها وتستخدمها لكي تحقق بها مكاسب سياسية كما كانت تفعل حكومة الإنقاذ مما يؤجج نار الفتنة والصراع بين أهل الدين الواحد فتقطر الدماء وتزهق الأرواح وتنتهك الحرمات.
على مدار التاريخ لم يكن تعدد القبائل في السودان هو الداعي للنزاع والاحتراب وإنما الذي كان سبباً لذلك بداية من الكافر المستعمر ثم حكومات العمالة التي ورثته بعد ذلك في حكم السودان.
وما حدث خلال الأيام الماضية هو نتيجة لذلك، وخاصة في هذه الفترة والصراع دائر على أوجه بين المكون الحاكم من المدنيين والعسكريين باعتبار أن كل واحد منهما يخدم مصالح طرف دولي مستعمر مختلف عن الآخر، ولذلك تجد كلاً منهم يقدم ما يستطيع من قرابين الولاء حتى يفوز بالرضا والقبول، ولذلك منذ بدء الفترة الانتقالية شهد السودان عدداً من الصدامات والتراشقات؛ فبعيد التوقيع على الوثيقة الدستورية في آب/أغسطس الماضي شهدت مدينة بورتسودان صراعاً بين النوبة والبني عامر، وكذلك مع تعيين الوزراء انفجر غرب السودان، والآن مع إطلاق تعيين ولاة مدنيين انفجر الغرب والشرق والجنوب، وحتى الخرطوم لم تسلم من بعض الأحداث المشابهة وكل ذلك في إطار الحرب السياسية بين الفريقين.
وما حصل من مجلس السيادة الذي يرأسه البرهان القائد العام للقوات المسلحة يوم الأربعاء 13/5/2020م حول تصريح على صفحته في الفيس بوك وتويتر قال فيه: "توافق شركاء السلطة على إقالة وزير الصحة"، ثم حذف الخبر بعد نصف ساعة من نشره، وبعدها نشر مجلس الوزراء بياناً أكد فيه الثقة في وزير الصحة، ثم يعود إلينا مجلس السيادة مساء اليوم نفسه مرة أخرى بخبر الإقالة نفسه على صفحته، ما يؤكد حالة التضارب والاختلاف بين الفريقين، وكذلك تكرار تصريح نائب رئيس مجلس السيادة وقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان (حميدتي) بأن هناك أياديَ خفية وطرفاً ثالثاً وراء هذه الأحداث، فقد قام بنفسه في أحداث دارفور بمتحرك أسماه "إعادة الحق" بقوام ثلاثمائة عربة بالتوجه لدارفور وحل النزاع هناك، وكذلك عقب أحداث كادقلي قال: "هناك جهات تريد إخراج قوات الدعم السريع من الخرطوم وجرها لصدام مع الجيش" (الجزيرة 13/5/2020م).
إذاً هناك من يحرك هذه النعرات ويقف خلفها وكذلك هناك اختلاف بين المكون الحاكم في شقيه العسكري والمدني ولكن لا يستطيع المكون المدني أن يذكي نار هذه الحرب لأن ذلك ليس في مصلحته إذ إنه يدخل البلد في تهديد أمني مما يشرعن تدخل العسكر لتدارك الأمر، هذا فضلاً عن ضعف هذا المكون والانشطارات والتخبطات التي يعاني منها بداية منذ توليه قسمة السلطة مع العسكر وزادت حدتها في الآونة الأخيرة مما يستبعده من أن يقوم بذلك، وبالتالي يكون المكون العسكري والقيادة في الجيش هي المتهمة الأولى وراء هذه الفتنة؛ حتى تزيد بها إضعاف المنافس المدني وتقصيه من الساحة، ومن جانب آخر تحشد الناس حولها بحجة أنها هي الوحيدة القادرة على حسم هذه التفلتات، وهذا ما هو بارز، وتحديداً استخدام حميدتي ليقوم بهذه المهمة، الذي ظل يتصدر جميع النزاعات في السودان، وهذا جانب آخر يراد من خلاله تلميع صورة الرجل الذي تلطخت يداه بدماء أهل السودان، وبالتالي تكون قيادة العسكر بهذه الكيفية قد أرضت سيدتها أمريكا تمام الرضا؛ بأن جعلت السلطة خالصة لها من غير منازع أو مشاغب.
هذه هي الحقيقة المُرّة للأسف الشديد، ولذلك لا بد أن يدرك أهلنا في مناطق النزاع أنهم في ظل الحكومات الوطنية ليسوا سوى أدوات رخيصة يتم استخدامهم لقتل بعضهم بعضا، فعليهم أن ينتبهوا لهذه المسألة الخطيرة ويعلموا أنهم مسلمون وإسلامهم كما يمنع الاقتتال القبلي وهو من المعلوم من الدين بالضرورة، فكذلك يمنع ويحرم عليهم وجود من يشعل هذه الفتنة بينهم، وهذا لن يكون إلا بهدم ما بناه المستعمر من هذه الحكومات الوطنية وإقامة مكانها ما بناه النبي صلى الله عليه وسلم وهدم به هذه العصبية النتنة وهي دولة الخلافة الراشدة، فبها وحدها يقضى على نار الفتنة ويعود أهل دارفور وكردفان وكل قبائل السودان بل المسلمون جميعاً إخوة متحابين.
بقلم: المهندس أحمد جعفر
رأيك في الموضوع